انخفضت أسعار الدولار والعملات الصعبة في السوق الموازية (السوداء)، متأثرة بحرب نفسية تقودها الحكومة المصرية، عبر أذرع أمنية وإعلامية، أدت إلى فقد العملات الصعبة نحو سدس قيمتها خلال الــ 72 ساعة الماضية، لكنها لم تنجح في وقف ارتفاع أسعار السلع.
عاود الدولار ارتفاعه في السوق الموازية من جديد، ظهر اليوم الأحد، مع انتظام العمل بالبنوك ليرتفع من مستوى الهبوط الذي بلغه ظهر السبت عند 60 جنيهاً للدولار إلى 63 جنيهاً، في العاصمة والمدن الكبرى، ليزيد في المحافظات بنحو 5 جنيهات.
بلغ سعر الدولار في سوق الذهب 62 جنيهاً، وهو ما أدى إلى تراجع سعر غرام الذهب (عيار 24) إلى 4 آلاف و57 جنيهاً، والعيار 21 الأكثر تداولاً عند 3555 جنيهاً، وعيار 18 انخفض إلى مستوى 3000 جنيه.
وخسر الذهب 200 جنيه يومياً منذ الخميس الماضي، بعد شن حملات أمنية استهدفت كبار التجار، ومنع بيع سبائك الذهب والذهب الكسر (القديم) وتوجيه المشترين إلى شراء الذهب المصنوع الخاضع لضريبة المبيعات والدمغة.
حملات أمنية وإعلامية
يشير اقتصاديون إلى أن تذبذب سعر الدولار في السوق الموازية، على مدار الساعة، يرجع إلى "ضغوط غير منطقية" تمارس على أسواق تداول العملة الصعبة، خارج الدوائر الرسمية، تأتي على رأسها الحملات الأمنية التي أطلقتها الحكومة للقبض على تجار العملة والمتعاملين بها خارج البنوك، وأسفرت عن ضبط عشرات الحالات بمبالغ بسيطة في سوق هائلة اتسع حجمها خلال العام الماضي ليصل إلى 10 مليارات دولار.
وأكد ثلاثة خبراء اقتصاد لــ"العربي الجديد" أنّ الحكومة تدير حرباً نفسية واسعة، منذ منتصف الأسبوع الماضي، على المتعاملين في الدولار خارج السوق الرسمية وتجار الذهب والسلع الرئيسية الذين يحددون الأسعار وفقاً لقيمة الدولار في السوق الموازية، بقصد خفض سعر الدولار فيها، إلى مستوى أقل من 50 جنيهاً.
يشير الخبراء إلى رغبة الحكومة في توجيه سعر الدولار في السوق الموازية عند مستوى 45 جنيهاً، خلال أيام، لتتمكن من تنفيذ خطة التعويم الجديد التي توصلت إليها أخيراً مع صندوق النقد الدولي.
توشك الحكومة على تطوير اتفاق مع صندوق النقد الدولي سبق أن وقعته في ديسمبر/ كانون الأول 2022، يقضي بإقراضها 3 مليارات دولار، ليزيد عن الضعف، يأتي ذلك بالتوازي مع جهود لدول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لدعم النظام في مواجهة أسوأ أزمة اقتصادية تشهدها البلاد منذ عقود.
وصفت مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية، الخميس الماضي، برنامج الدعم الاقتصادي لـمصر على رغم سوءات النظام، بأنها حالة الضرورة التي تحول دون انفجار دولة فيها أكثر من 100 مليون نسمة.
إجراءات ما قبل التعويم الجديد
ذكر محلل مالي لـ"العربي الجديد" أنّ الحكومة ستواصل حربها على تبادل الدولار وتجار سبائك الذهب، لدفع حاملي الدولار إلى التخلّص منه عبر القنوات الرسمية، عندما يصل إلى مرحلة التعادل التي تراها مناسبة لإجراء التعويم الجديد، خلال الأيام المقبلة.
وقال خبير التمويل والاستثمار وائل النحاس لــ"العربي الجديد" إنّ الحكومة يمكنها أن تبدأ التعويم عند مستوى 58 جنيهاً للدولار، لافتاً إلى أنّ تأخير الحكومة لقرار التعويم مع عدم قدرتها على توفير الدولار بالبنوك، يجعل الأمر يزداد سوءًا.
ويحذر النحاس من إفراط الحكومة والبنك المركزي بالتوجه نحو سياسة التشدد النقدي التي تعالج عبر سيناريو متكرر يعتمد على تعويم للجنيه يعقبه زيادة في الفائدة بالبنوك، دون تدبير موارد من النقد الأجنبي ناتجة عن زيادة الإنتاج والصادرات، وليس مزيداً من القروض، التي تحمّل الموازنة العامة أعباء هائلة.
تعاني مصر ارتفاعاً حاداً في الديون الأجنبية بلغت نحو 164.5 مليار دولار في نهاية سبتمبر/ أيلول 2023، وارتفاع فوائد أقساط الديون إلى 42 مليار دولار لعام 2024، وعجز بين الصادرات والواردات يبلغ 40 مليار دولار، يقابله نقص حاد في العملة الصعبة، مع تراجع بنحو 10 مليارات دولار من تحويلات المصريين في الخارج.
كما تراجعت صادرات الغاز بنسبة 65% عام 2023، مقابل زيادة قيمة واردات البلاد من النفط والسلع الأساسية، متأثرة بزيادة أسعار الشحن والتضخم السائد عالمياً.
وانخفضت إيرادات قناة السويس، المصدر الثالث للعملة الصعبة للدولة، لشهر يناير/ كانون الثاني الماضي، بنسبة تقترب من 50% في تراجع للشهر الثاني على التوالي.
وحققت القناة دخلاً بنحو 428 مليون دولار مقارنة بـ 804 ملايين دولار للشهر نفسه عام 2023، مدفوعاً بهروب شركات الشحن الكبرى من المرور بالبحر الأحمر.
وأرجع رئيس هيئة قناة السويس أسامة ربيع الأمر إلى انخفاض عدد السفن المارة بالقناة بنسبة 36%.
وتأثرت الحركة بالحرب الإسرائيلية على غزة، وتصاعدت مع لجوء جماعة الحوثي اليمنية إلى ضرب السفن المتجهة إلى موانئ دولة الاحتلال والدول الداعمة لها.
ويهدد القصف المتبادل بين القوات الأميركية البريطانية والحوثيين، حركة التجارة الدولية والسياحة ومخاوف الاستثمار الأجنبي في المنطقة.
ارتفاع أسعار السلع
في مشهد يعكس اضطراب الأسواق، ارتفعت أسعار جميع السلع الأساسية، الغذائية والاستهلاكية والمعمرة، بنسب تصل إلى 30%، اعتباراً من بداية فبراير/ شباط الجاري.
وفرضت شركات الأغذية والموردون قوائم أسعار بيع الأجبان والزيوت واللحوم والدواجن، حيث فوجئ المستهلكون بزيادة أسعار طبق البيض من 130 جنيهاً إلى 150 جنيهاً للجملة ليصل إلى الجمهور ما بين 165 و174 جنيهاً.
زادت أسعار الدواجن من 80 جنيهاً إلى 105 جنيهات، لتصل إلى 130 جنيهاً للدواجن البلدي.
يتوقع رئيس شعبة الدواجن عبد العزير السيد، ارتفاعاً جديداً بأسعار اللحوم البيضاء والدواجن، والبيض بنسبة 15%، قبل شهر رمضان، الذي يحلّ في مارس/ آذار المقبل.
ويشير السيد، في تصريحات صحافية، إلى ارتفاع أسعار الأعلاف وجميع مستلزمات الإنتاج، من الذرة وفول الصويا والأعلاف، والأدوية بالإضافة إلى زيادة أسعار الغاز والكهرباء والمياه التي فرضتها الحكومة مع فواتير يناير الماضي.
وزادت أسعار اللحوم البلدية من 360 جنيهاً إلى 400 جنيه، لتصل في بعض المناطق المتوسطة إلى ما بين 440 و500 جنيه للكيلو.
وتوقع نائب رئيس الشعبة هيثم عبد الباسط، أن تباع اللحوم البلدية بما يزيد عن 500 جنيه في أنحاء البلاد، خلال شهر رمضان، مع وجود عجز كبير في الإنتاج، وكثرة في الاستهلاك بنحو ضعف الكمية.
كما ارتفعت أسعار الدقيق بنسبة 25%، أدت إلى زيادة سعر الخبز خارج دائرة الدعم التمويني، مع خفض وزنه من مستوى 70 غراماً إلى 40 غراماً.
وزادت أسعار الأكلات الشعبية وعلى رأسها الفلافل والفول وطبق الكشري، بنحو 15% متأثرة بزيادة أسعار البقوليات كالعدس والفاصوليا والفول المدمس المستورد بنسبة 90% من الخارج.
كما ارتفعت أسعار معدات الكمبيوتر والسلع المعمرة بجميع أنواعها بنسبة تصل إلى 25%، مع اختفاء كثير من الأصناف وقطع الغيار اللازمة لها، بالتوازي مع زيادة أسعار السيارات ومستلزماتها.
أزمة الدولار
يرجع التجار الزيادة إلى ارتفاع سعر الدولار، وتقييمهم للأسعار الجديدة، وفقاً لسعر الدولار عند 72 جنيهاً، الذي تداولته السوق الموازية قبيل بداية فبراير الجاري.
يراهن التجار على قدرة الحكومة على الحد من تصاعد الدولار، مؤكدين أن تراجع الدولار والعملات الصعبة على رأسها الريال السعودي واليورو، لن يوقف حالة الغلاء السائدة حالياً.
ويراهن التجار على لجوء البنك المركزي إلى تعويم الجنيه، مع التزام الحكومة بتوفير الدولار، للموردين والمصنعين، لشراء مستلزمات الإنتاج من الخارج، بما يمكنهم من السيطرة على موجات الغلاء الفاحش السائدة في الأسواق.
وقدّم رئيس شعبة المستوردين في غرفة تجارة القاهرة عماد قناوي، طلباً للحكومة بقبول إيداعات المستوردين في البنوك بدون قيود أو طلب معرفة مصدرها، لتمكين الموردين من استيراد المنتجات الأساسية للمستهلكين.
وتشعل أزمة الدولار وتصاعد الغلاء الغضب بين المصريين، وتَظهر جلية على وسائل التواصل الاجتماعي، يقابلها حملات إلكترونية وأخرى على وسائل الإعلام التي تديرها الأجهزة الأمنية، تلقي باللائمة على تجار العملة والذهب وجهات أخرى في الخارج، تستهدف الوقيعة بين النظام والشعب، ودفع الناس إلى التظاهر والفوضى، بينما تظل الحكومة عاجزة عن مواجهة فعالة لأزمة متصاعدة منذ أعوام.
ووعدت مؤسسة الرئاسة في إبريل/ نيسان الماضي، بنهاية سريعة لأزمة الدولار في إطار رغبتها في وقف موجات الغلاء التي تدفع بملايين الأسر نحو فقر مدقع.
وكرر الإعلام الرسمي الوعود نفسها، على ألسنة شخصيات محسوبة على السلطة، مؤكدين أن الدولار لن يكون له قيمة في المرحلة المقبلة، ناصحين من لديه الدولار بأن يتخلص منه، قبل أن يفقد قيمته للأبد مقابل الجنيه.
لا تلق النصائح آذاناً مصغية، مع استمرار تصاعد أسعار المنتجات والسلع، مرهونة بحالة ترقب جديدة، لسعر العملات الصعبة التي دخلت بعضها لأول مرة السوق الموازية وعلى رأسها اليوان الصيني.
(الدولار= 30.95 جنيهاً تقريباً)