دخلت مصر أتون الحرب المستعرة بين الدولار الأميركي واليوان الصيني، بانضمامها رسميا لعضوية بنك التنمية الآسيوي، الذي أنشأته الصين لتأسيس نظام مالي متعدد الأقطاب مناوئ لصندوق النقد والبنك الدوليين اللذين يعززان النفوذ المالي للولايات المتحدة المسيطر عالميا عبر هيمنة الدولار على الأسواق. وحاولت مصر الانضمام إلى البنك، على مراحل متعددة، بعدما أعلنت مديرة صندوق النقد الدولي السابقة كرستين لاغارد إضافة اليوان إلى سلة العملات بالصندوق، مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2016.
أسرعت الصين بتوقيع اتفاقات لتبادل العملة مع 36 دولة بقيمة 3.3 تريليونات يوان، حصلت مصر خلالها على قرض قيمته 20 مليار يوان، لدعم الاحتياطي النقدي، بما يعادل 2.7 مليار دولار.
أصبح البنك المركزي أحد مراكز تبادل وتسوية خدمة اليوان من بين 20 مركزا اعتمد تحديد أسعار صرف اليوان يوميا، وفقا للمعايير الدولية ومتوسط قياس قيمة حقوق السحب الخاصة لـ188 دولة من الدول الأعضاء بصندوق النقد.
قدمت الصين قرضا إضافيا قيمته مليار دولار، لمساعدة الحكومة المصرية على دفع حصتها لتصبح عضوا مؤسسا في بنك التنمية، للاستفادة من تسهيلات البنك، بعد تعهد بكين بضخ استثمارات بقيمة تريليون دولار حتى عام 2020.
بلغت احتياطات اليوان بصندوق النقد 5.37% عام 2022 متقدما على اليورو الذي تراجع إلى 4.74%. أسفرت 8 لقاءات متتالية بين قيادة البلدين عن توقيع اتفاق شراكة استراتيجية، وعدت خلالها الصين بضخ 15 مليار دولار بقطاع الكهرباء والطاقة ومباني العاصمة الإدارية والسكك الحديدية بالقاهرة والإسكندرية، وانضمام مصر إلى "مشروع القرون" الحزام والطريق، لربط الصين بأسواق العالم، يمر خطه الرئيسي لأوروبا عبر قناة السويس.
كما حصلت مصر على 35% من قيمة التمويل، حيث ظهرت صعوبات استخدام اليوان، معلقة بارتفاع الفائدة على القروض بالعملة الصينية الريمينبي التي تصل إلى 5%، في وقت حصلت فيه على قروض سخية من صندوق النقد الدولي بنحو 12 مليار دولار عام 2016، بفائدة 2%، بالإضافة إلى تزايد العجز السنوي في الميزان التجاري بمعدلات هائلة تفوق 30% لصالح الصين سنويا، وربط التمويل بالتنفيذ عبر شركات وعمالة صينية.
أدت زيادة كلفة الإقراض الصيني إلى تباطؤ مصر في التوجه نحو التعامل باليوان، وتعليقه في سوق صرف العملة بالبنوك، رغم ظهوره اسميا على شاشات التدوال يوميا.
رفض البنك المركزي توفير اليوان للمستثمرين الراغبين في استيراد البضائع من الصين، مشترطا زيادة الصادرات المصرية. وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2021 إلى نحو 19.98 مليار دولار، وبلغت الواردات من يناير/ كانون الثاني إلى أكتوبر/ تشرين الأول 2022 نحو 12.1 مليار دولار، والصادرات 385 مليار دولار.
تظهر بيانات جهاز التعبئة والإحصاء ثبات النسبة بين الواردات والصادرات 9:1 لصالح الصين، بسبب تنوع البضائع الواردة لكافة الصناعات وخاصة السلع الاستهلاكية، بينما تنحصر الصادرات المصرية في المنتجات البترولية وخامات أولية بالإضافة إلى العنب والمانجو والبرتقال.
وأكد وزير المالية المصري محمد معيط، في تصريح صحافي منذ أيام، أن إجمالي الاستثمارات الصينية في مصر بلغت حتى عام 2022 مليار دولار ضختها 140 شركة صينية، من بينها 102 شركة تعمل بالمنطقة الصناعية الصينية، غرب خليج السويس، "تيدا- مصر".
وفي ظل أزمة مالية شديدة، يواجه وزير المالية شحا في الدولار، وصعوبة في الحصول على القروض السهلة، التي مكنته من زيادة الدين الخارجي بنحو 116 مليار دولار خلال 8 سنوات ليرتفع إلى 162 مليار دولار، نهاية ديسمبر/ كانون الثاني الماضي. كما أعاد معيط التذكير برغبته في إصدار سندات الباندا باليوان في سوق السندات والأسهم بشنغهاي والتي تعطل صدورها منذ مارس/ آذار 2022، بقيمة 500 مليون دولار.
ويأتي ذلك في وقت تواجه فيه مصر ضغوطا في القروض من الغرب بسبب انتهاكات حقوق الإنسان وزيادة الفوائد على الدولار واليورو والعملات الرئيسية.
تلقفت الحكومة استلام الجزء المدفوع من حصتها في بنك التنمية الآسيوي والمقدر بنحو 340 مليون دولار، بالترويج لانضمامها إلى معسكر الدول التي أظهرت نيتها بالتخلي عن الدولار، مقابل العملات الأخرى، وخاصة اليوان، حيث وافقت السعودية على بيع النفط باليوان، وطرحت الإمارات صفقات أولية من الغاز والنفط لتباع في بورصة شنغهاي باليوان.
تسعى الحكومة إلى توجيه ضربة للدولار في السوق المحلية، بعدما فشلت في الحد من نمو سعره بالسوق السوداء، ما قلص قدرتها على تطبيق اتفاق مع صندوق النقد الدولي يقضي على السوق الموازية بتحرير سعر الصرف. وتضاعفت احتياجات الحكومة من التمويل الخارجي، لتراوح ما بين 20 و30 مليار دولار سنويا، وفقا لتقديرات بنك الاستثمار.
يقدر بنك غولدمان ساكس الدين الخارجي بنحو 49% من الناتج المحلي عام 2022، بارتفاع 17% عن عام 2016، ليبرهن على أن مصر أصبحت "معرضة بشدة لاختلال محتمل في قدرتها على الاقتراض من الخارج".
وأدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى خروج مفاجئ لـ22 مليار دولار من مصر، في إطار هروب المستثمرين من الأسواق الناشئة بحثا عن ملاذ آمن.
وخسرت مصر السياحة الروسية والأكرانية، التي مثلت لسنوات نحو 50% من عوائد القطاع، وعانت مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم، من ارتفاع حاد بأسعار الحبوب، تمثل 80% من احتياجاتها من الدولتين المتحاربتين.
قيّدت الدولة الواردات، فلم تستطع زيادة الصادرات أو خفض الإنفاق الحكومي على المشروعات العامة، وهو ما سبب موجات حادة من الضغط على العملة، أدت إلى ارتفاع معدلات الفائدة والتضخم وتباطؤ النمو، وتوجهها نحو "الحل المؤلم" الذي يراه بنك غولدمان ساكس في شكل خفض لقيمة العملة وفرض قيود جديدة على الواردات.
وتراجعت قيمة الجنيه للعقود الآجلة لمدة 12 شهرا إلى 41 جنيها مقابل الدولار، مع توقع تعويم رابع لسعر الصرف ليصل الدولار قريبا عند متوسط سعر السوق السوداء إلى 36 جنيها، بدلا من الاستقرار عند حواف 31 جنيها بالبنوك.
وزادت النظرة السلبية للاقتصاد، بعد توقف سخاء الدعم غير المشروط من دول الخليج، والقروض المتاحة من الغرب وخاصة صندوق النقد، حيث أصبحت مصر أكبر ثاني مدين للصندوق بعد الأرجنتين.
يرى نائب رئيس اتحاد الغرف التجارية أحمد شيحة أن توجه الحكومة إلى دعم التعاملات باليوان أمر حيوي في ظل "حرب اقتصادية يعيشها العالم، تأتي بنتائج أسوأ من الحروب العسكرية".
يقول شيحة لـ"العربي الجديد"، إن الأزمة في العملة الصعبة تعكس اعتماد الحكومة بنسبة 80% على تدبير احتياجاتها من الواردات بالدولار، وهو ما يدفع إلى استمرار زيادة الطلب عليه، رغم ارتفاع معدلات الفائدة ورغبة الولايات المتحدة في اقتناص ثروات الشعوب.
أضاف شيحة أن الأزمة المالية التي نمر بها سببها الخضوع غير المشروط لتعليمات صندوق النقد الدولي وقبول الهيمنة الأميركية، مبينا أن إجمالي دخل الدولة يبلغ نحو 115 مليار دولار، تمثل متحصلات الصادرات والسياحة وقناة السويس وتحويلات المصريين بالخارج والخدمات، بينما الواردات تصل إلى 85 مليار دولار، ما يعني وجود فائض يخرج من البلاد، دون معرفة مصيره.
يطالب شيحة برفع الصادرات عبر استخدام اليوان مع الصين، والروبل مع روسيا، وبالعملة المحلية مع الدول العربية.
يميل الفائض التجاري لصالح الصين بنحو 15 مليار دولار وروسيا 7 مليارات دولار والدول العربية 20 مليار دولار، وفقا لتقديرات شيحة، وفي ظل وجود العجز في الميزان التجاري، تتم التسويات بالدولار، فتدفع الطلب على العملات الأجنبية ليظل سعر صرف الجنيه متراجعا.
يعاني مدراء الاستثمار في شركات متعاملة مع السوق الصيني من استحالة حصولهم على اليوان من البنوك المحلية. يشير أحد مديري الشركات متحدثا لـ"العربي الجديد"، إلى أنه يلجأ إلى شراء اليوان من أسواق دبي عند سفره للصين، بعمولة تصل إلى 17%، يضطر إلى تحملها في المبالغ البسيطة، في حال عدم قدرته على تدبير الدولار.
وتشكو شركات صينية بالقاهرة من عدم تمكينها من تكوين محفظة مالية باليوان، بالبنوك، وتضطر إلى التعامل بالدولار في كل احتياجاتها.
وتعاقدت شركات المقاولات الحكومية مع الشركات الصينية لبناء البرج الأيقوني بالعاصمة ومباني حي المال والأعمال والوزارات وناطحات السحاب بمدينة العلمين بالساحل الشمالي بالدولار.
وتلجأ الشركات الصينية إلى توظيف السيولة لديها من الجنيه، بتوفيرها للشركات الشقيقة عبر مقاصة ترعاها السفارة الصينية بالقاهرة، لضمان استعادة عوائدها المالية بسبب التأخير المستمر في إنهاء الحكومة تدبير العملة للمستثمرين الراغبين في تحويل أرباحهم أو نقل أصولهم للخارج.
ويدير الإعلام الموجه حملة نفسية على سوق متعطش للعملات الصعبة، مبشرا بنظام "عالم ما بعد الدولار" يرى خبراء أنه لن يكون مرجحا نهاية هيمنته على المدى المنظور، مع استمرار التحالف العسكري بين القاهرة وواشنطن، والدعم السياسي، الذي يمكن النظام من الحصول على قروض هائلة من البنوك الغربية وصندوق النقد والبنك الدوليين لم تحدث في سنوات سابقة.
يشير الخبراء إلى أن الصين التي أقرضت 22 دولة، من بينها مصر، 240 مليار دولار خلال الفترة من عام 2000- 2021، استهدفت تقديم "قرض الملاذ الأخير" الذي يُدفع بهدف إحراج مؤسسات التمويل الغربية وعلى رأسها صندوق النقد.
يشير أعضاء بجمعية رجال الأعمال المصريين إلى أن الصين تقدم اليوان من خلال قروض إيداع توضع بالبنوك المركزية، توفر تغطية بنظام المقايضة على السلع والخدمات سمحت ظروفها بالنمو مع البرازيل والأرجنتين وروسيا وإيران ويمكن تكرارها مقابل النفط والغاز مع السعودية والإمارات، ومع الهند بالمقايضة بدرهم الإمارات، وفي حالة مصر ستظل المشكلة قائمة، لأن تسويات الحسابات وشراء سندات الباندا والقروض تسجل بالدولار.
يأتي الإقراض الصيني للمشروعات الحكومية وغيرها عبر "خط المقايضة" من بنك الصين المركزي بالتنسيق مع بنك التسويات الدولية بسويسرا، أو الدعم المباشر بالدولار، كما حدث مع وديعة بقيمة مليار دولار بالبنك المركزي، وقرض تجاري قيمته 700 مليون دولار قدمته الصين للبنك الأهلي لاستيراد سلع لحساب الحكومة.
وما زالت الحكومات والبنوك المركزية تفضل التعامل بالدولار الذي يهيمن على 60% من احتياطي البنوك في العالم، وفقا لبيانات البنك الدولي لعام 2022، بينما يحتل اليورو المرتبة الثانية بنسبة 20% والين الياباني 6%، ويظل الجنيه الإسترليني واليوان الصيني والدولار الكندي والأسترالي عند أقل من 5% من احتياطي العملات الدولية.
وحسب مراقبين، ستظل مصر عالقة في أزمتها المالية، ولن تلحق ألما بالدولار الذي أصبحت أسيرة له رغم شحه، طالما ظلت تبحث عن بدائل لتدبير العملة الصعبة عبر قروض ودعم أجنبي لبناء مشروعات فاخرة بدون دراسات جدوى وغير مربحة، دون أن تدفع بعجلة الإنتاج والتصنيع ترفع من خلالهما الصادرات التي لا تتجاوز 10% من الناتج الإجمالي.