يواجه قطاع الصناعة في العراق مشاكل كبيرة وقاسية منذ الغزو الأميركي للبلاد عام 2003. إذ إن بغداد التي نجحت في تأسيس قطاع ضخم للصناعات حقق اكتفاءً ذاتياً في العديد من السلع، بمساعدة دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي السابق منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، تعاني اليوم من توقف آلاف المشاريع والمصانع التابعة للدولة بسبب التخريب أو السرقة والإهمال.
والأزمة لا تتوقف هنا، إذ إنه فوق تعطيل هذا القطاع الإنتاجي، تُدفع ملايين الدولارات من موازنة الدولة لعمال مئات المصانع المتوقفة. وفيما قال مسؤولون في وزارة الصناعة العراقية إن العجز المزمن عن إحياء المصانع سببه قلة المخصصات المالية بالدرجة الأولى، أكد آخرون أن دوافع سياسية تقف وراء ذلك لضمان استمرار استيراد العراق حاجاته، وخاصة من إيران وبالعملة الصعبة.
الضغط على الموازنة
وشرح مسؤول عراقي في وزارة الصناعة أن عدد المعامل والمصانع الحكومية العاملة في العراق لا يتعدى العشرين في المائة من مجموع المصانع الإنتاجية البالغة أكثر من ألف معمل ومصنع في مختلف القطاعات التي خرجت غالبيتها من الخدمة منذ الاحتلال الأميركي للبلاد.
وبيّن أن قطاع الصناعة في العراق كان يمثل 23 في المائة من الناتج الإجمالي قبل عام 2003، وكانت معامل الأدوية، والغزل والنسيج والألبسة، والأسمدة والفوسفات، ومصانع السكر، ومصانع الإسمنت والحديد الصلب، والصناعات الدقيقة، وأخرى للمواد الغذائية والألبان، قد حققت الاكتفاء الذاتي، لكنها اليوم باتت عالة على الدولة التي تدفع مرتبات الآلاف من موظفيها والعاملين فيها من دون أن يقوموا بأي عمل.
وأضاف أن دفع مرتبات موظفي المصانع والمعامل ما زال وفقاً لنظام السلف، بمعنى أن الحكومة تُسلّف وزارة الصناعة على أمل أن تسدد من الإنتاج لاحقاً، لكن عملياً منذ عام 2019 آلاف المصانع وقطاعات الإنتاج العراقية متوقفة، وبالتالي فإن هذه المدفوعات لن تُسترجع.
وشرح المنسق العام لشبكة الاقتصاديين العراقيين، الدكتور بارق شُبَّر، أن المصانع العراقية تكلف خزينة الدولة أكثر من 500 مليون دولار سنوياً، ولا توجد دولة في العالم، مهما كان نظامها الاقتصادي، رأسمالياً كان أو اشتراكياً، تدفع رواتب لموظفين أو عمال لا يعملون.
وأكد شُبَّر في حديث مع "العربي الجديد"، أن الاستمرار في دفع الرواتب من دون عمل مقابل يعني إرهاق موازنة الدولة وهدر الموارد المالية التي يمكن الاستفادة منها لبناء المدارس والمستشفيات والطرق والبنى التحتية.
وأوضح أن السياسات الاقتصادية في جميع بلدان العالم تقوم على خطط واستراتيجيات للحد من مخاطر أي أزمة، مثلاً في النظام الرأسمالي عند توقف المصنع عن العمل، تُصمَّم برامج خاصة، إما التقاعد المبكر، أو مكافآت مالية، أو نقل ملكية المصنع إلى العاملين، بينما في الاقتصاد الاشتراكي يُنقَل العاملون إلى مصانع أو منشآت أخرى. وأكد أن العراق هو البلد الوحيد في العالم الذي لا يُعتمد فيه أي من هذين الحلين، بسبب غياب الإرادة السياسية، وهيمنة الأحزاب على السياسة الصناعية والاقتصادية للدولة.
شركات خاسرة
بدوره، أكد الباحث في الشأن الاقتصادي العراقي، حمزة الحردان، أن إهمال قطاعات الإنتاج واعتماد البلد على واردات بيع النفط العراقي والاتجاه نحو تعزيز الموازنات التشغيلية، قيّدت الاقتصاد العراقي وجعلته اقتصاداً يعتمد بشكل كامل على النفط بعدما كان القطاع الصناعي يشكل نسبة مهمة من الناتج المحلي الإجمالي قبل عام 2003.
وأضاف الحردان لـ"العربي الجديد"، أن أغلب الشركات الصناعية المملوكة للدولة شركات خاسرة، وتعتمد على موازنة الدولة في توفير التمويل ورواتب الموظفين، بسبب استمرار بعضها على الطرق القديمة في الإنتاج، التي تعتبر مكلفة مقارنةً بالوسائل الحديثة التي تعتمد التكنولوجيا الصناعية فيها.
وأكد وجود أعداد كبيرة من الموظفين تفوق حاجة الشركات الصناعية بنسب عالية جداً والتي تمثل أحد أوجه البطالة المقنعة في العراق، وشرح أن 80 في المائة من المخصصات السنوية للموازنة التشغيلية تُنفق على الرواتب ومستحقات الموظفين، فيما كان من المفترض أن تتجه هذه المبالغ للاستثمار في إعادة تأهيل المصانع وتحديثها.
ومن أجل حلّ هذه الأزمة ومواجهتها، اقترح الحردان أن تعمل الحكومة العراقية على طرح هذه المصانع للاستثمار وفسح المجال أمام القطاع الخاص ليأخذ دوره في تطوير القطاع الصناعي، والتخفيف عن كاهل الموازنات السنوية هذا الكم الهائل من الموظفين غير المنتجين.
وبين أن هذه الخطوة ستوفر عملية تحول في الإنتاج الصناعي العراقي، إذ يعتبر القطاع الخاص أكثر حرصاً على ديمومة الإنتاج لأنه يرتبط بمعدلات الربح والنمو.
أزمة البطالة
من جانبه، أشار النائب المستقل في البرلمان العراقي، ياسر وتوت، إلى أن "واحداً من أبرز الأسباب التي أدت إلى الاحتقان الشعبي الواسع واندلاع تظاهرات عام 2019، هو البطالة التي كان أبرز أسبابها غياب المصانع والمعامل العراقية التي كانت تستوعب الخريجين والخبرات قبل الاحتلال الأميركي، والتي فشلت معظم الأحزاب العراقية في إعادة تأهيلها".
ولفت "العربي الجديد" إلى أن "هذا الملف، واحد من الملفات التي يحملها النواب المستقلون من أجل طرحها في البرلمان خلال الفترة المقبلة، وإخراج العراق من الاقتصاد الريعي الذي وضع البلاد في خانة الاعتماد على بيع النفط وشراء كل مستلزمات السوق من الخارج".
وأكد وتوت أن "هناك أجندات حزبية وإرادة سياسية وأخرى اقتصادية لمتنفذين تمنع إعادة تشغيل المعامل العراقية، أو تطوير المعامل التي تعمل حالياً لإنتاج مواد غذائية أو أدوات احتياطية وإنشائية متأخرة مقارنة بما تصنعه دول العالم".
وشدد على ضرورة "استبعاد شركات الاستيراد التابعة لأحزاب وسياسيين في المرحلة المقبلة، ولا سيما أن العراق يمر بأزمة مالية كبيرة، وأن هناك مخاطر اقتصادية محتملة للسنوات المقبلة قد تؤدي بالتعيينات الحكومية إلى التوقف التام بسبب التضخم في أعداد الموظفين، وهو ما سيؤدي إلى نسب بطالة أعلى من جراء تزايد أعداد الخريجين من الكليات".
وسعى ناشطون وتجار ومستثمرون عراقيون، خلال العامين الماضيين، لإعادة الحياة للصناعة المحلية، لكن الحملة لم تستمر بسبب قلة الدعم المالي للمصانع من قبل الحكومة، كذلك فإنها لم تتجه نحو الحدود المفتوحة مع إيران وتركيا، بحسب النائب هادي السلامي.
وقال السلامي لـ"العربي الجديد"، إن "الحكومات العراقية جميعها مقصّرة في تأهيل المصانع والمعامل التي جعلت العراق في فترات عدة، مكتفياً بما ينتج ويصنع". وتابع حديثه بالتشديد على "وجود إرادة سياسية وشركات كبيرة لا تريد للعراق أن يستقر، أو أن يصل إلى حالة جيدة اقتصادياً، لأنها جهات تعتاش على الأزمات، وهي تريد أن يكون العراق تابعاً بكل الأشكال إلى دول الجوار".
وقدّم المستشار الاقتصادي والمالي في الحكومة العراقية، مظهر محمد صالح، في مارس/ آذار الماضي، مقترحاً لتأسيس لجنة ثابتة للشراكة الانتاجية بين القطاعين العام والخاص، ولفت في تصريح نقلته وكالة الأنباء العراقية، إلى أنّ "من بين النشاطات التي اقترحها لفتحها أمام الشراكة، الاستثمار بالزراعة والخدمات الرقمية وتشغيل المصانع، لتكون قادرة على توليد الملايين من فرص العمل".
لكن الخبير الاقتصادي بشير الجواهري، لفت إلى أن "العراق يحتاج في السنوات المقبلة إلى مدن صناعية كاملة، وليس فقط إلى معامل ومصانع، وذلك بسبب كثرة الخريجين سنوياً، إضافة إلى الحاجة إلى مزيدٍ من المنتجات والمواد الغذائية"، موضحاً لـ"العربي الجديد"، أن "فتح المصانع العراقية يحتاج إلى إرادة سياسية جامعة قوية وحازمة تجاه إنقاذ الوطن، ومن دون ذلك، فإن جميع التحركات السياسية أو البرلمانية لن تصل إلى نتائج".
وتشير بيانات حكومية سابقة إلى أن العراق كان من دول العالم المزدهرة صناعياً في عقود السبعينيات والستينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وكان حجم إنتاج القطاع الصناعي يلبي حاجة السوق المحلية، فضلاً عن التصدير إلى الخارج.