مخاطر العودة إلى العمل في المكاتب

12 اغسطس 2021
حي المال البريطاني شبه خال بعد الازدحام الشديد (getty)
+ الخط -

مضى أكثر من عام ونصف العام منذ لجأت مؤسسات تعليمية وشركات كثيرة، في مختلف مناطق العالم، إلى إنجاز العمل "عن بعد"، والعمل من المنازل. وقد سبب هذا التحوّل الذي توقّعه كثيرون أن يصبح سمة الطبيعة الجديدة للعمل بعد سنوات، ولكنه جاء بغتة بسبب وباء كوفيد-19 وتحوّراته، والذي فرض التباعد الاجتماعي والحجر الصحي وحظر التجول، وأوجد واقعاً جديداً له محبوه والمستأنسون به، والكارهون والباغضون له.

وفي العدد الصادر أخيرا من مجلة "هارفارد بيزنس ريفيو" HBR، التي تقدم دراسات وأبحاثا قيّمة في مجال الأعمال وإدارة الشركات والتسويق والقيادة، بقلم كبار الأساتذة والباحثين والخبراء، نشرت المجلة مقالة للباحثتين كونستانس دايركس ودوري كلارك، بعنوان "العودة إلى المكتب ستكون شاقة، وهذه مقترحات لجعل العملية سهلة"، وفيها أن بعضهم يتطلع بشوق للعودة إلى المكتب، لكنّ هذا لا يعني أنهم لن يواجهوا مشكلات في ذلك. وموظفون آخرون ستسبب لهم العودة أرقاً وخروجاً عن نمط تعوّدوا عليه بعَجَره وبَجَره وتآلفوا معه، ولا يريدون أن يبدأوا في إعادة التأقلم مع العمل في المكاتب.
ومن تجربتي الخاصة في التعليم الجامعي، وجدت أن طلاب الدراسات العليا الذين كنت أدرّسهم قد تراجع إنجازهم بَعْدما انتقلوا من مرحلة التعليم الوجاهي إلى التعليم عن بعد. وكنت أدرّس مادتين، الشركات الأسرية (Family Business)، والشركات المخاطر الجديدة (New Venture Start -Ups).
أما الغالبية من طلاب الدراسات العليا فقد أصبحوا أكثر طلاقة، وأكثر رغبةً في الكلام عبر تطبيق Zoom، علماً أنني كنت أدفعهم دفعاً إلى الوقوف أمام الصف، لبيان وجهة نظرهم في قضية نقاشية طرحتها عليهم. لما زاد عبء المواجهة والحديث أمام باقي أفراد الصف (الفصل)، انطلق هؤلاء في الحديث عبر قنوات التواصل الاجتماعي.
أما الذين كانوا أكثر براءةً وأقل خوفاً من مواجهة الزملاء، فقد تراجع إنجازهم قليلاً، لما صاروا يتحدّثون عبر الكمبيوتر المحمول أو الهاتف النقال. وسوف يجد كلا الصنفين من الطلبة مشكلاتٍ عند العودة إلى التعليم الوجاهي.

وينطبق الحال نفسه على الموظفين، سواء من النوع الذي وجد صعوبة في التأقلم مع إنجاز العمل عن بعد، أو حتى الذين تمكّنوا من زيادة فاعليتهم وإتاجيتهم في إنجاز العمل عن بعد. وبالعودة إلى العمل، سوف يحمل الموظفون سلوكيات جديدة إلى بيئة العمل في المكاتب. ولذلك يصبح التأقلم مع بيئة المكاتب لها محاذيرها، وسيجد هؤلاء الموظفون أن الترتيبات في المكاتب قد تغيرت. ولذلك هم مضطرّون إلى قضاء ساعات عمل طوال في المكاتب، ما سيقلقهم أكثر بكثير من أداء ساعات العمل نفسها من المنزل.
هذه التحدّيات وغيرها يجب أن يستعد لها الجميع، خصوصا وأن العودة إلى العمل في المكاتب لن تكون كاملة، بل سيكون هنالك نظام مختلط (Hybrid System)، حيث سيعود بعض الموظفين إلى العمل، لكنّ كثيرين قد يُؤثرون العمل من منازلهم.
4 مقترحات
أمام هذه التحدّيات، تتساءل الباحثتان، دايركس وكلارك، عما يمكن أن تعمله الإدارة، حتى تتجاوز هذه التحدّيات، وتعيد تطبيع الأمور داخل المكتب، بحيث يعود العمل إلى سَيْره السابق بدون زعزعة أو نتوءات. ولذلك هما تتقدمان بأربعة مقترحات.
المقترح الأول:
الانتباه إلى أن الموظفين العائدين سيكونون غير واثقين من موقعهم في الشركة بعد غياب فاق السنة أو السنة والنصف. ولذلك، سيجدون من الصعب إعادة بناء روح الفريق بينهم، إلا إذا اتخذت الإدارة الإجراءات لتعزيز ثقة الموظفين بأنفسهم، وتبيان دورهم ضمن الفرق أو اللجان التي يعملون فيها، ونشر روح الثقة والتعاون في ما بينهم.

لا بدّ من تحسين وسائل التواصل بين الموظفين، وتعزيز ثقتهم ببعضهم بعضا، ولو بالمديح وبعدم استخدام أي وسائل للتفريق بينهم.

وبعبارة مختصرة، لا بدّ من تحسين وسائل التواصل بين الموظفين، وتعزيز ثقتهم ببعضهم بعضا، ولو بالمديح وبعدم استخدام أي وسائل للتفريق بينهم.
يدعو المقترح، باختصار، إلى "بناء روح الفريق". وبلغتي الخاصة، أنّها دعوة إلى خلق "esprit de crops"، وبلغة الباحثتين "over-indexing".
المقترح الثاني:
السماح للعاملين بالتعبير عن شجونهم ومخاوفهم، فإذا كان موقف الإدارة من هذا الأمر إيجابياً وتعاونياً، فسوف يستعيد الموظفون والعاملون ثقتهم في بيئة العمل، وسوف يقدّمون إنتاجاً أفضل.
وتحذّر الكاتبتان، المديرين والمسؤولين في الشركات من أن يدعوا النقاش ينحدر إلى مستوى الاتهامية، أو التحليل النفسي الساذج، فمثل هذه الأمور تعمّق روح العداء الناجم عن تقلب مناخ العمل وظروفه.

ولذلك، يعطى الموظفون الحق في إبداء آرائهم ومخاوفهم، وتشجيع الآخرين الذين يشاركونهم المخاوف نفسها من التعبير عن أنفسهم، من دون محاولة توصيف السلوك أو دفعه نحو التحليل النفسي.
المقترح الثالث:
تسهيل التواصل الشخصي بين الموظفين. وإذا سألك أحدهم سؤالاً، تحوّله إلى أحد الموظفين، مقترحاً عليه أو سائلاً إياه: "ما رأيك في زميلك خليل؟ هل يمكنه أن يساعدك في هذا الموضوع؟ لكنّ الأهم ألّا تكون أنت المبادر دائماً باقتراح التشبيك بين الموظفين، لكن الأفضل هو إيجاد البيئة المحفزة لذلك.
المقترح الرابع:

وأخيراً، المطلوب من الإدارة أن تمارس ضبط النفس، وأن تكظم غيظها، وأن تبقي اهتمامها محصوراً في دعم معنويات الموظفين، والاهتمام بهم، مهما بدت مشكلاتهم غير منطقية بالنسبة إليك، أو مهما بدا الموظف عاجزاً عن التعبير عن نفسه ما يجعله يبدو غاضباً.
العودة إلى العمل من المكاتب ليست مجرّد الانتقال من البيت إلى مكان العمل المعتاد، لكنّها فترة تأقلم وتعايش مع بيئة جديدة لها تحدّياتها، والنجاح في عبورها هو دور الإدارة العليا داخل الشركات والمؤسسات.

المساهمون