أعلنت الحكومة المصرية نيتها بيع حصصها في 32 شركة، تشمل 18 قطاعاً ونشاطاً اقتصادياً، لمستثمر استراتيجي أو في البورصة المصرية، على مدار عام، تشمل العديد من الفنادق التاريخية، بالإضافة إلى ثلاثة مصارف، هي بنك القاهرة والبنك العربي الأفريقي والمصرف المتحد، وشركات أخرى.
ورغم أنّ رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، أكد أنّ عملية البيع تلك تأتي في إطار تفعيل وثيقة سياسة ملكية الدولة، وأنّ الهدف من بيع الشركات زيادة رأسمالها، أو استحواذ المستثمرين على حصة منها بهدف تطويرها، يدرك الجميع أن الهدف من البيع توفير سيولة دولارية، يمكن من خلالها سد العجز في الحساب الجاري، الذي أرّق البلاد خلال العام الماضي، وسبّب فقدان الجنيه المصري ما يقرب من نصف قيمته في أقل من عشرة أشهر.
سألني محاور من إحدى القنوات التليفزيونية العربية، عن سبب الضجة التي أثيرت في الموضوع، وعن السبب في رفض البعض لتلك الخطوة، التي يفترض أن تحل الأزمة التي سبّبت تعطل وصول البضائع إلى الأسواق المصرية، ليختفي بعضها، وليرتفع سعر البعض الآخر إلى السماء، بالإضافة إلى ما يمكن أن تدره من زيادات لرأسمال تلك الشركات، وخبرات إدارية، وتكنولوجيا متقدمة.
ومع نوعية الشركات المختارة وطبيعة نشاطها، كما الخبرات السابقة التي صاحبت بيع العديد من الشركات لمستثمرين وصناديق من الدول الخليجية، كان استبعاد أي من النقاط السابقة هو الاحتمال الأكبر، إلا أن المحاور أصرّ على ذكر الأسباب المباشرة لرفض عرض تلك الشركات للبيع، فذكرت له أسباباً خمسة، لخصت في رأيي أهم أسباب الرفض.
أما السبب الأول، فكان أن البيع يأتي بعد أن فقد الجنيه ما يقرب من نصف قيمته مقابل الدولار، وأيضاً مقابل عملات الدول المرشح مستثمروها للشراء، وهو ما يعني أن البيع يأتي بتخفيض يقترب من 50%، أي أننا نبيع بيع المضطر، حيث يدرك الجميع أننا في شدة الاحتياج لأي مبلغ ممكن تدبيره بالعملة الجنبية، حتى نتمكن من سداد التزاماتنا خلال الأشهر القادمة.
وأما السبب الثاني، فكان مرجعه عدم ثقتنا بتقييم الشركات المبيعة بصورة تعكس قيمة أصولها الحقيقية، في الأوقات الطبيعية، لا الأوقات التي تمرّ بها البلاد حالياً، حيث تباطأ الاستيراد، وتعطل وصول العديد من السلع والمواد الخام، وتأثر الإنتاج والتصدير، وتراجع نشاط القطاع الخاص للشهر السادس والعشرين على التوالي، وارتفعت تكلفة الاقتراض، وبدت ملامح الأزمة تقريباً في كلّ نواحي الاقتصاد الحقيقي.
وأما السبب الثالث، فيخص الشركات التي اختيرَت للطرح تحديداً، حيث كان أغلبها رابحاً، منتجاً ومصدراً، يدرّ عملة أجنبية للبلاد، وهو ما يجعل النتيجة الطبيعية لبيعها لمستثمر أجنبي حرمان الحكومة المصرية جزءاً من إيراداتها، وهو ما يترتب عنه تخفيض المبالغ الموجهة لعلاج وغذاء وتعليم وبحث علمي وإنفاق اجتماعي على فقراء المصريين، في وقتٍ تعاني فيه تلك المجالات أصلاً من ضعف الإنفاق، بالمقارنة بعدد السكان، وبالمقارنة بدول العالم الأخرى.
ويحرم بيع حصة الحكومة في الشركات المعروضة للبيع الدولة حصيلة النقد الأجنبي لصادرات تلك الشركات، لكونها تذهب للملاك الجدد، بينما يزيد الضغط على العملة المحلية خلال الربع الأول من كل عام، وهي الفترة التي يجري فيها إعلان ربحية تلك الشركات، حين تطلب الأطراف المشترية تحويل نصيبها من الأرباح إلى بلادها، في صورة عملة أجنبية.
وأما السبب الرابع، فهو الكيفية التي تُختار بها الشركات المطروحة للبيع، أو ما تشتمل عليه عقود البيع، أو الامتيازات المصاحبة لعمليات البيع، حيث يكتنف كل ذلك الغموض، ولا نعرف حقيقته إلا بعد إتمام عملية البيع و"وقوع الفأس في الرأس"، كما حدث في صفقات مارس/ آذار الماضي، التي استحوذ فيها صندوق أبوظبي للاستثمارات على حصص في خمس من كبرى الشركات المصرية المملوكة للحكومة، ولم نعرف بتلك الصفقات إلا عندما أفصح عنها الطرف المشتري.
ويزيد من أهمية هذه النقطة غياب الجهات الرقابية التي يمكن الوثوق بقيامها بدورها، لضمان عدم وجود عمليات فساد أو تلاعب في تلك الصفقات، على غرار ما كان يحدث في فترات سابقة. أما المجالس النيابية التي يفترض أن تمثل مصالح المواطنين، فالبعض يرى أنها لم تكن قادرة، خلال السنوات الأخيرة، على القيام بدورها على الوجه الأمثل، لأسباب كثيرة، ليس أهمها انتماء بعض المشرعين إلى أحزاب أسستها كيانات سيادية أمنية تنفيذية، ولا ترشيح تلك الجهات للبعض الآخر لدخول تلك المجالس.
أما السبب الأخير، فهو صدور حكم المحكمة الدستورية العليا في مصر أخيراً، القاضي بعدم جواز طعن أي طرف، أياً كان الضرر الواقع عليه، على العقود المبرمة، باستثناء الطرف البائع والطرف المشتري، في تجريد تام للمصريين من حقوقهم في حماية أصولهم واقتصادهم، وفي تفريط واضح لأبسط مبادئ العدالة.
تضغط ظروف السوق المحلية على الحكومة المصرية للتسريع بعملية البيع، حيث تحتاج الحكومة للعملة الأجنبية، ويضغط أيضاً صندوق النقد ببعثته المتوقع زيارتها لمصر الشهر القادم، من أجل تقييم الأمور واتخاذ قرار بشأن صرف الدفعة الثانية من قرض الثلاثة مليارات دولار، إن كانت مصر قد التزمت بتعهداتها إليه، بينما لا تزداد الأوضاع في البلاد إلا سوءاً، ولا يزداد الجنيه إلا ضعفاً.
انطلقت وزيرة التخطيط، التي تشرف على الصندوق السيادي، الباب الأسود لتمرير الشركات المصرية لبيعها للصناديق الخليجية، في جولة ترويجية في قطر وعمان والكويت، والتقت مسؤولين سعوديين وإماراتيين وبحرينيين في مؤتمر دافوس، ويزور رئيس البورصة المصرية هذه الأيام السعودية والإمارات، بينما يتابع المصريون ما يسمح لهم بمعرفته من وسائل الإعلام المصرية، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون.
فهل ستنفذ الحكومة المصرية مخططها لبيع الأصول المصرية، أم ينقلب السحر على الساحر، وتتعثر عملية البيع، كما حدث في محاولات سابقة؟