استمع إلى الملخص
- **أزمة الإيجارات وغياب التخطيط الحكومي:** تصاعدت أسعار الإيجارات في المناطق الآمنة بنسبة تصل إلى 650%، مع غياب دور الدولة في تنظيم السوق العقاري، مما يثير تساؤلات حول قدرة البلاد على التعامل مع موجات نزوح أكبر.
- **تقصير الحكومة في إدارة الأزمة:** رغم وجود خطة طوارئ وطنية، لم تُنفذ بنودها بسبب نقص التمويل والتراخي الحكومي، مما يعكس التفاوتات الطبقية والاجتماعية وغياب الجهود المنظمة لإجلاء المعرّضين للخطر.
مع تصاعد الاعتداءات الإسرائيليّة خلال الأسابيع الماضية، واتساع رقعة ووتيرة الاستهدافات خارج المناطق الحدوديّة التي تحكمها قواعد الاشتباك مع حزب الله، تنامت على نحوٍ ملحوظ أعداد النازحين من جنوب لبنان. وفاقما من موجة النزوح الجديدة المخاوف من احتمالات الوصول إلى مرحلة الحرب واسعة النطاق، بعد عمليّة اغتيال القيادي في حزب الله فؤاد شكر، التي عكست رغبة إسرائيليّة واضحة في تخطّي الحدود المرسومة للمواجهات مع لبنان منذ تشرين الأوّل الماضي.
أرقام الأمم المتحدّة تؤكّد ارتفاع أعداد النازحين داخلياً، الذين تجاوز عددهم الـ 110 آلاف شخص بحلول شهر آب/ أغسطس الماضي، فيما تقارب نسبة الأطفال الـ 35% من هؤلاء النازحين. وهذا الرقم، يزيد بنحو 44.7% عن عدد النازحين داخلياً في بداية هذه السنة، أي بعد نحو شهر ونصف من بدء المواجهات، والذي بلغ حينها حدود الـ 76 ألف نازحـ بحسب أرقام المنظمّة الدوليّة للهجرة.
غير أنّ الزيادة الأخيرة في عدد النازحين، على بشاعتها، لا تعكس أسوأ السيناريوهات المحتملة. فالأرقام التي عملت عليها الحكومة اللبنانيّة قدّرت أن يرتفع عدد النازحين داخلياً إلى أكثر من مليون لبناني، في حال تكرار سيناريو الحرب الإسرائيليّة عام 2006، التي طاولت معظم أنحاء الجنوب والضاحية الجنوبيّة لبيروت، إلى جانب بعض مناطق البقاع. مع الإشارة إلى أن بعض القادة السياسيين في إسرائيليين هدّدوا بحربٍ أوسع نطاقاً، وبما يطاول العاصمة بيروت نفسها.
وجميع هذه التقديرات لأعداد النازحين، لا تشمل اللاجئين السوريين والفلسطينيين الموجودين في أماكن التصعيد المحتملة، والذين يقارب عددهم، في جميع المناطق اللبنانيّة، نحو 1.67 مليون نسمة. ومن المعلوم أن واقع اللجوء السوري بالتحديد سيمثّل تحدياً مُستجداً لم يسبق أن واجهه لبنان خلال حرب عام 2006، التي سبقت بدء توافد اللاجئين السوريين إلى البلاد.
مع موجة النزوح الأخيرة، تصاعدت على وسائل التواصل الاجتماعيّة السجالات الحادّة حول ظاهرة ارتفاع أسعار الإيجارات، في العديد من المناطق اللبنانيّة، والتي تضخّمت بنسب تصل إلى 650% بحسب بعض المسوحات. وكان السبب الأساسي الذي دفع بهذا الاتجاه تسابق الأسر الميسورة على حجز المنازل في المناطق الآمنة، والبعيدة عن نطاق التصعيد المحتمل.
وكما هي العادّة في لبنان، أخذت بعض هذه السجالات، للأسف، أبعاداً مناطقيّة وسياسيّة. كما صوّب البعض على ظاهرة استغلال الأزمة، من جانب بعض مالكي العقارات الشاغرة. أمّا معالجة هذا المشكلة، فكانت عبر المبادرات المحليّة التي قامت بها بعض الأحزاب والجمعيّات والبلديّات في المناطق، لمنع رفع كلفة الإيجارات بمستويات غير منطقيّة، أو لتأمين المنازل الشاغرة للنازحين بأسعار طبيعيّة.
المشكلة الأساسيّة في السجالات التي جرت بخصوص هذا الموضوع كانت ابتعاد النقاش بأسره عن الجانب المتعلّق بمسؤوليّة الدولة نفسها، في التعامل مع تداعيات أزمة النزوح، إذ إنّ تزاحم الأسر على استئجار المنازل بهذا الشكل، وخضوع الأسعار لقاعدة العرض والطلب وحدها، لم يعكس سوى غياب الخطط الاستباقيّة، التي كان يفترض أن تتعامل سريعاً مع أي زيادة في أعداد النازحين. وهذا ما يطرح أسئلة جديّة حول قدرة البلاد على التعامل مع موجات أكبر من النازحين، ما لم يتم تطوير الإجراءات والمعالجات الحكوميّة.
منذ بداية المواجهات، ناقشت الحكومة وحدّثت بشكل متكرّر خطة طوارئ وطنيّة خاصّة، للتعامل مع الأزمات المختلفة التي يمكن أن تنتج عن توسّع الأعمال الحربيّة. وكان من المفترض أن تؤمّن الخطّة الاستباقيّة استجابة سريعة لسيناريو نزوح أكثر من مليون مواطن لبناني، بالإضافة إلى عدد غير مُحدّد من اللاجئين السوريين والفلسطينيين. كما نصّت الخطّة، نظرياً، على إجراءات لضمان إمدادات الدواء والوقود والكهرباء والمياه والإسعافات الأولويّة خلال الحرب.
ورغم توزيع مهام الخطّة على الوزارات المختلفة، ظلّت بنودها حبراً على ورق، بالنظر إلى غياب التمويل الضخم المطلوب لتنفيذ هذا النوع من الإجراءات الاستباقيّة، واتّفاق الحكومة مع مصرف لبنان المركزي على سياسات ماليّة تقشّفية حادّة. ومع استطالة مدّة المواجهات منذ تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، وعدم تحوّلها إلى حرب شاملة، تراخت الإدارات الرسميّة في التعامل مع بنود الخطّة، التي كان يُفترض أن يسبق تنفيذها الحرب لا أن يليها.
لكل هذه الأسباب، اقتصر دور الغالبيّة الساحقة من الوزارات اليوم على تنسيق المساعدات الإغاثيّة الواردة من المؤسّسات الدوليّة، أو تجهيز عدد محدود جداً من المدارس والمعاهد الرسميّة لاستقبال النازحين. ومن الناحية العمليّة، يصعب القول إنّ النازحين يرون بالفعل أي إدارة جديّة لما يُعرف بالجبهة الداخليّة، من جانب الحكومة اللبنانيّة.
تجهيز الجبهة الداخليّة اللبنانية لاحتمالات الحرب الواسعة والتهجير كان يقتضي أولاً توجيه الإدارات المحليّة في المناطق لإجراء جردة شاملة، تُحصى بموجبها المساكن الشاغرة أو المنشآت التي يمكن استخدامها كمساكن عند حاجة. وعلى هذا الأساس يمكن وضع مجموعة من الإجراءات التي تضمن تلبية الطلب على المساكن في المناطق الآمنة، وفق سيناريوهات مُعدّة سلفاً، تلحظ الأعداد المحتملة للاجئين عند الوصول إلى أي درجة تصعيد أمني.
وهذا النوع من الخطط، يستلزم طبعاً وجود خطوط هاتفيّة ساخنة، وتعليمات يوميّة ومتواصلة للجبهة الداخليّة، مع تحديد واضح ومُعلن للمناطق والممرّات الآمنة في كل مرحلة وبعد كل تصعيد. كما يستلزم وجود جهات محليّة مسؤولة ومكلّفة من جانب الحكومة، بالتعامل مع موجات النزوح التي تحصل والتي يُحتمل حصولها. وبالاستناد إلى هذه الإجراءات يمكن ضمان الحاجات الأساسيّة للنازحين خلال فترة الحرب، على أن تكون المساعدات الخارجيّة عنصرًا مُكملًا، لا أساسيًا، في هذه الخطّة.
تغييب دور الدولة في هذا المجال، سيعني ترك الساحة للمبادرات الفرديّة أو المناطقيّة أو العائليّة، إذ تشير إحصاءات المنظمة الدوليّة للهجرة إلى أنّ 80% من النازحين اضطرّوا للانتقال إلى منازل أقاربهم في مناطق أخرى، بينما تمكّن 17% منهم من استئجار منازل مستقلّة بعيدة عن مواقع الاشتباك. وفي المقابل، تمكّنت المنظّمات الدوليّة من تلبية حاجات السكن لـ 2% فقط من النازحين.
من هذه الأرقام، يتضح سريعاً أنّ القدرة على الابتعاد من مواقع الاشتباك باتت تعتمد على العلاقات العائليّة بالنسبة للغالبيّة العظمى من النازحين، أو على القدرات الماليّة بالنسبة للقلّة الميسورة منهم. أمّا الحكومة اللبنانيّة، فلم تلعب أي دور يُذكر على هذا الصعيد، باستثناء متابعة جهود المنظمات الدوليّة، التي لم تغطِّ خدماتها سوى نسبة ضئيلة جداً من النازحين. وبذلك أصبحت التفاوتات الطبقيّة أو الاجتماعيّة عاملاً محدداً لنوعيّة ودرجة المخاطر التي تحيط بحياة الفرد.
أمّا الأهم هنا، فهو أن نلحظ أن هناك أكثر من 150 ألف مقيم لم يغادروا المناطق الخطرة في جنوب لبنان، بحسب أرقام الأمم المتحدة. وهذا الرقم يفوق أعداد النازحين، الذين تمكنوا من مغادرة هذه المناطق بالفعل. وهذا ما يشير إلى غياب أي جهد منظّم لإجلاء المعرّضين للخطر، من المناطق التي يتم قصفها يومياً في جنوب لبنان. كما يشير إلى عدم امتلاك فئات واسعة من المقيمين في الجنوب البدائل، التي تسمح بانتقالهم إلى مناطق آمنة وبعيدة عن الاشتباكات.