يُردِّد معظم اللبنانيين اليوم أنهم ليسوا بحاجةٍ لاستذكار الحرب الأهلية (1975 ـ 1990) في 13 إبريل/ نيسان من كلِّ عامٍ، إذ إنهم يعيشون فصولاً تذكرهم بها، لا بل كوابيس لم تخرق منازلهم حتى قبل ستّ وأربعين سنة.
يسأل "العمّ جورج" (80 عاماً) وهو يلعبُ طاولةَ النرد مع جارهِ صباح كلِّ يومٍ أمام دكانتهِ الصغيرة في زحلة بمحافظة البقاع: "ماذا حلّ باللبنانيّ؟ لم أعد أعرفه، أهو تغيَّر أم نحن تبدَّلنا؟ كان الصغار يتهافتون الى المحلّ قبل ذهابهم الى المدرسة، أوزّع عليهم الحلوى مجاناً فما كانت تكلفني شيئاً، ألف ليرة كحدٍّ أقصى، تكفيني الفرحة التي أراها على وجوههم والحضن الدافئ الصادق الذي يبادلوني به من باب الشكر، لكن الآن اختلفت يومياتي، بسوادها الذي لم يمرّ مثله حتى في الحرب الأهلية، وغلائها الذي جعلني عاجزاً عن رسم بسمة صباحية لأطفالٍ لم يعيشوا أجواء القصف والدمار لكنهم شاهدون على الجوع، والفقر، والعتمة، والبطالة، والهجرة، وكوارث من شأنها أن تقضي على حاضرهم ومستقبلهم".
يقول "الختيار" كما يناديه زبائنه الأوفياء، "أملك هذه الدكانة منذ أربعين عاما وأكثر، أسعار السلع لم تكن يوماً بهذا الغلاء الفاحش، كان الفقير رغم ظروف الحرب القاسية لديه إمكانية شراء ربطة الخبز والحاجيات الأساسية أما حالياً، فإن كان يملك المال لشراء الرغيف أو الحليب قد لا يجدهما أصلاً في السوق".
ويردد بعض اللبنانيين عبارات من نوع أن الحرب كانت أهون من مرحلة ما بعد عام 2019. في تلك الحقبة كان يمكن الاختباء من قذيفة أو رصاصة أو اشتباكات مسلحة في أحيانٍ كثيرة، أما اليوم فالموت جوعاً أو على أبواب المستشفيات ولا إمكانية للخروج من هذه الدوامة، لا بل الخوف من القادم بات أكبر في ظلّ انسداد جميع الأفق واستمرار الخلاف حكومياً وبدء العدّ العكسي لعقوبات جديدة ستدخل أوروبا على خطّها وما يتردّد عن قطع بنوك عالمية علاقاتها المصرفية مع لبنان ما من شأنه أن يشكّل الضربة القاضية للبلاد.
ويستجمع اللبنانيون بعض المشاهد التي عايشوها في الماضي وأخرى حديثة لم يعرفوها سابقاً حتى خلال الحرب الأهلية: "برادات خالية، كهرباء مقطوعة، درس على ضوء الشمعة أو القنديل، أزمة محروقات وطوابير السيارات أمام المحطات، أزمة خبز وحليب، انقطاع مواد غذائية، شحّ أدوية في الصيدليات، إشكالات بين الزبائن في السوبرماركات على سلعٍ مدعومة، مصارف تحتجز ودائع الناس ودولاراتهم، انهيار الليرة اللبنانية، غلاء فاحش، تحليق سعر صرف الدولار في السوق السوداء، إقفال مؤسسات تجارية وسياحية وشركات خاصة، توقف الاستثمارات.. وغيرها الكثير. ويبقى أهم قاسم مشترك بين الحقبتين، جشع التجار واستغلالهم للأزمة لكسب أموالٍ طائلة، والوجوه السياسية الفاسدة نفسها المهووسة بالسلطة، وما تزال تفتعل المعارك باسم الطائفة وحقوقها لكن بأسلحةٍ مختلفةٍ، وها هي اليوم تحاول إحياء الزبائنية والتبعية من خلال المساعدات الغذائية والصحية و"بطاقات الإعاشة" كمفاتيح انتخابية تستخدمها في الاستحقاق النيابي المنتظر.
يقول المستشار في التنمية ومكافحة الفقر، أديب نعمة، لـ"العربي الجديد" إنّ هناك أوجه شبه بين الحاضر وفترة الحرب الأهلية واختلافات عدّة أيضاً، حيث إنّ ما حصل في زمن الحرب، كان عبارة عن أعمال عسكرية وقصف واقتتال، وسيطرة مليشيات على الأراضي اللبنانية التي فرضت نفسها كأمر واقع، في ظل انحلال الدولة ومؤسساتها وعدم قدرتها على القيام بدورها، كسلطة أمنية أو سياسية، لكن في المقابل، استمرّ الأداء الوظيفي المالي والمصرفي، ولا سيما على صعيد دفع الرواتب والأجور، ولم نلتمس في تلك الفترة أزمة مالية ونقدية حادة أو انهيارا كاملا وتدهورا للعملة الوطنية.
يضيف نعمة " كانت الطبقة الوسطى موجودة وتحظى بمستوى معيشي جيد، كان راتب الأستاذ الثانوي على سبيل المثال يكفيه له ولأسرته وأولاده وتأمين مقومات العيش الكريم، وتخصيص أموال للسياحة والسفر، وكانت لدى الناس مدخرات، حتى أن انهيار سعر الصرف في فترة الثمانينات وما تلا الحرب من حروب إسرائيلية، واعتداءات واحتلال سوري، واغتيالات ومختلف الحوادث الأمنية، فالتعطيل لعمل المؤسسات والفراغ الرئاسي وما إلى ذلك، لم يترافق كله مع انهيارات أخرى ومنها عند مصرف لبنان والبنوك التي استمرّ نشاطها".
"أما الأسباب التي حالت دون الانهيار رغم الحرب العنيفة"، يقول نعمة، "فهي كثيرة لكن أبرزها التمويل الخارجي للأحزاب أو المليشيات، وبالتالي تدفق الأموال وتشغيل السوق اللبناني، عدم استنزاف كامل طاقة الاقتصاد، في حين لم يكن هناك أي ديون خارجية مترتبة على لبنان".
اليوم، ليس هناك من حرب أو قصف رغم التهويل المستمرّ بعودتها الى الداخل اللبناني، وباتت الدولة موجودة وتبسط سيادتها أقلّه على أغلب أراضيها رغم وجود أطراف تسيطر على القرار في لبنان، أما الجيش اللبناني فأصبح أقوى.
لكن في المقابل، يقول نعمة، نشهد انسداداً في الأفق، تدهوراً اقتصادياً وأزمة سيولة ونقد، وارتفاعا حادا في سعر صرف الدولار في السوق السوداء، أزمة مصارف، لا إنتاج، لا استيراد، أزمة غذاء وصحة، انحدر الحد الأدنى للأجور، وتعطلت الوظائف الاقتصادية والمالية للدولة أكثر من وقتِ الحرب.
ويشير نعمة الذي عمل سابقاً في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لـ"العربي الجديد" الى أن النظام المصرفي وبدل المساهمة في حلّ المشكلة، فقد دخل في اللعبة البهلوانية على الورق من خلال هندسات مالية تقوم على تمويل الدولة والعجز، وبالتالي تراكمت الديون في ظل غياب إمكانية تسديدها فلا نهوض اقتصاديا أو مبادرة لتنشيط الاقتصاد، بل استمرار تبديد الأموال والاستدانة، حيث إن قطاع الكهرباء لوحده كلّف الدولة اللبنانية أكثر من 40 مليار دولار، ومنطق الاستدانة ما يزال موجوداً ويتصدر الحلول بدل الخطط الاقتصادية الإنتاجية وصولاً الى استهلاك كل أصول الدولة بعد المسّ بالاحتياطي وربما الذهب وما يدخلنا بنفق خطير جداً.
ويقول نعمة: "عشت فترة الحرب، وقتها الناس كانوا توّاقين الى النهوض ويؤمنون بالقانون، لكن للأسف اليوم إنّ فكرة الدولة إلى انحلال، وربما تكون فكرة القانون والمؤسسات منهارة بالكامل، مع العلم أننا خرجنا من الحرب بصفر دين خارجي، ومنذ عام 1993 وتحت عناوين إعادة الإعمار وفتح الأسواق والاستثمارات، كرّت السُبحة وبدأ تطور الدين العام مع مرور السنين وتراكم الأزمات بمختلف أشكالها وصولاً الى الانهيار الحالي".
من جهته، يقول محمد شمس الدين الباحث في الشركة الدولية للمعلومات لـ"العربي الجديد" إنّ سعر صرف الدولار كان 3 ليرات خلال فترة الحرب، وبدأ الارتفاع في العام 1983 حيث وصل في العام 1992 الى 3000 ليرة لبنانية، ومن ثم شهد تراجعاً قبل أن يستقرّ على 1500 ليرة منذ سنة 1998 وحتى نهاية العام 2019.
ويلفت شمس الدين الى أن الودائع كانت خلال الحرب موجودة في المصارف ومتوفرة، حتى أن الفروع التي كانت تقفل نتيجة الأعمال العسكرية والمعارك، كان العمل فيها ينتقل الى فروع أخرى بهدف استمرار النشاط والحركة المصرفية، السلع كانت متوفرة، وكذلك فرص العمل بعكس حال البلاد اليوم.
ويقول الباحث في "الدولية للمعلومات" إن الحد الأدنى للأجور وصل الى 45 دولاراً مع تجاوز سعر صرف الدولار الواحد 15 ألف ليرة لبنانية، وهو شكل ارتفاعاً غير مسبوق في تاريخ لبنان لسعر الصرف. وتقول "الدولية للمعلومات" في تقارير لها إن الفترة ما بين 1960 و1981 تميزت بقوة سعر صرف الليرة مقابل الدولار واستقراره.
المرحلة الثانية، من 1982- 1985، شكلت بداية ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة، أما المرحلة الثالثة، 1986- 1992 فكان فيها الارتفاع الكبير في سعر صرف الدولار مقابل الليرة، إذ زاد سعر صرف الدولار مقابل الليرة من 87 ليرة في نهاية العام 1986 إلى 2.8 ألف ليرة - 3 آلاف ليرة في شهر سبتمبر/أيلول 1992.