تغير المناخ هو أكثر الأزمات الطبيعية تحديًا للبشرية في القرن الحالي، لتأثيره المباشر على الأمن الغذائي والفقر والنزوح والهجرة. وتعتبره الولايات المتحدة أهم مهددات الأمن القومي والأخطر على استقرار البلاد.
وفي ملاحظاته إلى لجنة مجلس الشيوخ للاستخبارات الأميركية بشأن "تقييم التهديد العالمي"، قال مدير الاستخبارات الوطنية، جيمس كلابر، إن تغير المناخ هو أخطر مهددات الأمن القومي الأميركي لتأثيره المباشر على الأمن الغذائي الذي تأثر بشدة خلال العقدين الماضيين بسبب الفيضانات الكاسحة والمتكررة، وموجات الحر والجفاف غير المسبوقة، وحرائق الغابات، والأعاصير، وارتفاع مستويات مياه السواحل.
وطوال ثلاثة عقود مضت، يحذر خبراء البيئة من تداعيات تغير المناخ على مناحي الحياة على كوكب الأرض، لكنهم لم يتوقعوا حدوث تلك التغيرات بالسرعة التي هي عليها في السنوات القليلة الماضية. حيث اجتاحت موجات الحر القائظ أقاليم من العالم، مثل أوروبا والأميركتين، كانت تُعرف في كتب الجغرافيا حتى وقت قريب بأنها باردة ومطيرة.
وكشفت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة والمختصة بدراسة الطقس والمناخ والموارد المائية، عن أنّ عام 2021 يأتي في المرتبة السادسة أو السابعة كأكثر السنوات حرارة جرى تسجيلها على الإطلاق، وأنّ الفترة بين 2015 إلى 2021 هي الأعوام السبعة الأكثر حرارة.
في صيف هذا العام سجلت أوروبا أسوأ موجة جفاف مصحوبة بارتفاع في درجات الحرارة منذ 500 سنة. وهي الموجة الثانية خلال 4 سنوات. وأدى الطقس الجاف الحار في 2018 إلى انخفاض غلة المحاصيل الرئيسية في وسط وشمال أوروبا بنسبة تصل إلى 50%، ولم يتم حصر تداعيات الموجة الأخيرة على إنتاج المحاصيل.
في إقليم حوض البحر المتوسط الذي يضم معظم الدول العربية، رصد خبراء البيئة تطورا تاريخيا في درجات الحرارة في الفترة ما بين 1960 و2014 تمثل في زيادة الاحترار منذ تسعينيات القرن العشرين. وعلى مدى العقدين الأخيرين، ارتفعت درجة الحرارة في الإقليم المناخي بنحو 0.4 درجة مئوية لكل عقد.
وكان العقدان الماضيان من القرن الحالي، الحادي والعشرين، أكثر احترارا بما يقارب 1 درجة مئوية في المتوسط عن مستويات أواخر القرن التاسع عشر. وكان العقد الأخير الأكثر حرارة على الإطلاق. وسجلت المنظمة ارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمية لعام 2021 حوالي 1.09 درجة مئوية فوق المتوسط المسجل في الفترة بين 1850- 1900.
في نهاية 2012، قالت منظمة الأغذية والزراعة، فاو، التابعة للأمم المتحدة إنّ الطقس المتطرف والأوبئة تسببت في دفع أسعار الغذاء العالمية في 2021 إلى أعلى مستوى لها في 46 عامًا.
وأتت الحرائق المستعرة بفعل الحرارة المرتفعة والجفاف والرياح العاتية على مساحات شاسعة من غابات العالم، في البرازيل والولايات المتحدة وأستراليا والهند وإسبانيا والجزائر وتركيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والمملكة المتحدة. وتبعا لذلك أصيبت رئات تنفس الكوكب في مقتل.
وتأثر الإنتاج الزراعي بالجفاف غير المسبوق في البرازيل والولايات المتحدة والصين والأرجنتين وكندا وأوروبا والهند، وهي الدول التي اعتادت أن تفيض بإنتاجها من الغذاء على بقية دول العالم المستوردة للغذاء.
وفي المقابل، غمرت الفيضانات العارمة دولا لم تعهد هذا النوع من الفيضانات القاتلة، مثل باكستان والهند وبنغلادش والسودان، ما تسبب في موت المئات من البشر وغرق مساحات واسعة من الأراضي المنزرعة بالمحاصيل الغذائية وتدمير الأمن الغذائي.
ينتج عن تغير المناخ الإجهاد الحراري للمحاصيل. ويعني ارتفاع درجات الحرارة عن الدرجة المثلى لنمو النبات، ما يؤدي إلى انخفاض إنتاج المحصول. في مايو 2015، أعلنت مؤسسة راجاراتنام للدراسات الدولية التابعة لجامعة نانيانج التكنولوجية بسنغافورة عن نتائج دراسة علمية بعنوان "تأثير التغير المناخي على إنتاج الغذاء"، جاء فيها أن إنتاج محصول الأرز سينخفض بفعل تغير المناخ، وهو سلعة أساسية لمعظم سكان الكرة الأرضية.
وجدت الدراسة أن كل زيادة في درجات الحرارة قدرها درجة مئوية واحدة فوق 24 درجة، تؤدي إلى انخفاض الإنتاجية بنسبة 10%. الإجهاد الحراري في فصل الصيف يمكن أن يؤدي أيضا إلى زيادة نفوق الحيوانات، وبالتالي تراجع عوائد الماشية من اللحوم والألبان ومنتجاتها.
وكمثال لما يمكن أن يفعله الإجهاد الحراري بغذاء العالم، فإن الولايات المتحدة، التي تصدر للعالم ما يقرب من 25 % من الحبوب الأساسية والأغذية الاستراتيجية، مثل القمح والذرة والأرز والصويا، كشفت إحصائية حديثة صادرة عن جامعة كاليفورنيا، عن تسبب الجفاف والحرارة المرتفعة في انخفاض محصول القمح عام 2021 بنسبة 40% في ولاية كاليفورنيا، وبنسبة 10% في الولايات المتحدة عموماً. وتسببا في انخفاض إنتاج الشعير بنسبة 71% في الولاية.
وبحلول عام 2050، تتوقع الإحصائيات أن يتم تبوير نصف مساحات الأراضي الزراعية في الوادي الخصيب في كاليفورنيا، أكبر الولايات الأميركية إنتاجا للغذاء.
ضرب الجفاف قارات العالم الأخرى. تقول الأمم المتحدة إن الجفاف يؤثر على أفريقيا أكثر من أي قارة أخرى، إذ إن 44% من الجفاف العالمي يفتك بأراضيها. وهي ضحية التغيرات المناخية رغم أنها لا تشارك في إنتاج غازات الاحتباس الحراري بنسبة تذكر.
القرن الأفريقي يشهد أسوأ موجة جفاف منذ أكثر من 40 عامًا، حيث يواجه السكان جوعاً شديداً في إثيوبيا والصومال وأجزاء من كينيا بعد تدمير المحاصيل الزراعية بفعل الجفاف على مدار أربع سنوات متتالية.
وينتج أيضا عن تغير المناخ الإجهاد المائي للمحاصيل. ويعني الضرر الذي يصيب النبات نتيجة التعرض إما إلى نقص الماء والجفاف، أو زيادة الماء عن الحد الأمثل اللازم لنمو النبات. ومن المرجح أن يؤثر الإجهاد المائي على إنتاج الأرز والقمح والذرة في آسيا والولايات المتحدة وأستراليا.
ويمكن أن يتأثر إنتاج الأرز في دلتا جنوب شرقي آسيا نتيجة حدوث فيضانات وعواصف ناجمة عن ارتفاع مستويات البحار، وزيادة هطول الأمطار.
ارتفاع معدل هطول الأمطار والفيضانات يمكن أن تتسبب في غرق وتآكل التربة، وبالتالي انخفاض العوائد منها. ومن هنا تستلزم التغيرات المناخية المتطرفة والمتوقعة خلال القرن الحالي تنفيذ مشروعات كبرى لحماية السواحل والمنشآت الصناعية والسياحية بالمناطق الساحلية في دول العالم والمنطقة العربية، والعمل على إيقاف تراجع خط الشاطئ في الدول والمناطق التي تعاني من عوامل النحر الشديد، واسترداد الشواطئ التي فُقدت بفعل النحر.
ينتج عن تغير المناخ كذلك نمو سلالات جديدة لعدد كبير من الحشائش والآفات والفطريات والفيروسات النباتية تحت درجات الحرارة الأكثر دفئاً والمناخات الرطبة وزيادة مستويات ثاني أكسيد الكربون.
من المرجح أن يزداد معدل انتشار الحشائش والآفات مع تغير المناخ. وحالياً، ينفق المزارعون الأميركيون أكثر من 11 مليار دولار سنوياً لمحاربة الحشائش الضارة، التي تتنافس مع المحاصيل على الضوء والماء والمغذيات.
قد يتسبب هذا في مشاكل جديدة لمحاصيل المزارعين التي لم تتعرض من قبل لهذه الأنواع من الحشائش والآفات.
تتوقع منظمة الأغذية والزراعة أيضا أن يؤدي تغير المناخ لزيادة أسعار المحاصيل الغذائية الاستراتيجية في العقود الثلاثة القادمة بسبب زيادة تكاليف الإنتاج في مواجهة آثار تغير المناخ وتراجع الإنتاجية أيضا. وبحلول العام 2050، من المتوقع أن تزيد أسعار القمح بنسبة 111%، والأرز بنسبة 35%، والذرة بنسبة 55%، وفول الصويا بنسبة 14%.
ومن تداعيات تغير المناخ على المواطن في الدول النامية، من المتوقع أن ينخفض المتاح للاستهلاك من الحبوب الغذائية والسعرات الحرارية وسترتفع بالتبعية نسب سوء تغذية الأطفال. سينخفض متوسط استهلاك الغذاء المعبر عنه بالسعرات الحرارية في البلدان النامية بأكثر من 15%، وسيزداد سوء تغذية الأطفال بأكثر من 20% مقارنة بمستويات خالية من تغير المناخ.
النمو السكاني والطلب على الوقود الحيوي تحديان يفاقمان تداعيات تغير المناخ ويؤديان إلى ارتفاع أسعار المحاصيل الغذائية مرة أخرى.
ومع توقع أن يزداد عدد سكان العالم بنسبة الثُّلث، تقول المنظمة إنه إذا ما استمرت الاتجاهات الحالية في نموّ الدخل والاستهلاك دون هوادة، فإنه سيتعيَّن على الإنتاج الزراعي أن ينمو بنسبة 60% لتلبية الطلبات المتزايدة المتوقعة على الأغذية والأعلاف. ومن المقدر أن يؤدي ذلك إلى زيادة إضافية لأسعار القمح بنسبة 39%، والأرز بنسبة 62%، والذرة بنسبة 63%، وفول الصويا بنسبة 72%.
ولتلافي الآثار المناخية على إنتاج الغذاء في الدول النامية تقول الفاو، ستكون هناك حاجة إلى زيادة الاستثمارات بنحو 7 مليارات دولار سنويًا في برامج تكيف المحاصيل وزيادة تأقلمها لتجنب عواقب تغير المناخ الخطيرة على أسعار الغذاء، مع الحاجة إلى مزيد من التمويل لتعزيز الإنتاجية، لا سيما للبحوث الزراعية الهادفة لتوفير بذور عالية الإنتاج ومقاومة للأمراض المستجدة الناتجة عن تغير المناخ، وتمكث في الأرض الزراعية مدة أقصر خلال مراحل النمو، وتوسيع مساحات الزراعات المروية على حساب البعلية، أو المعتمدة على الأمطار، لمساعدة المزارعين على التكيف ومواجهة آثار تغير المناخ.
كذلك يطرح الخبراء توصيات تتمثل في تنفيذ كل من البلدان المتقدمة والنامية، المصدرة والمستوردة للغذاء، تدابير وإجراءات محلية وعالمية لتطوير نظم إنتاج وتجارة المحاصيل الغذائية في ظل مناخ جديد.
فالبلدان المستوردة للغذاء والتي لديها القدرة على الاستثمار في مجال البحث والتنمية، مثل دول الخليج، ينبغي أن تعمل على دعم البحث العلمي والابتكار التكنولوجي لتحسين إنتاج المحاصيل، سواء في الدول الواعدة والتي لديها إمكانيات للإنتاج والتصدير مثل السودان، أو دول الوفرة الحالية.