تدحرجت العملة الأوروبية الموحدة، اليورو، بشكل لم يتوقعه كثيرون، فلأول مرة منذ إطلاقها قبل 20 سنة يتهاوى سعرها لأقل من دولار، وهو ما مثل صدمة للمضاربين وأسواق الصرف والعملات وقناصي الصفقات والحيتان، وحتى لبنوك وصناديق الاستثمار وكبار المستثمرين.
فكل هؤلاء وغيرهم راهنوا في سنوات سابقة على أن يكون اليورو هو الحصان الرابح في سباق العملات الرئيسية، خاصة مع رغبة دول كثيرة في التخلص من هيمنة الدولار على سوق الصرف والتجارة العالمية، وتسعير السلع الرئيسية مثل النفط والذهب والمعادن.
وهناك دول أخرى تسعى إلى تقليص وزن العملة الأميركية في سلة احتياطياتها من النقد الأجنبي لدى البنوك المركزية واستبدالها بالعملة الأوروبية أو الذهب أو حتى عملات أخرى مثل الفرنك السويسري والين الياباني واليوان الصيني.
لأول مرة منذ إطلاقها قبل 20 سنة يتهاوى سعر اليورو لأقل من دولار
هناك أسباب عدة وراء تهاوي اليورو مقابل الدولار على رأسها الأزمة الاقتصادية العنيفة والطاحنة التي تمر بها دول أوروبا منذ اشتعال الحرب في أوكرانيا.
فقد خلقت الحرب موجة تضخمية لم تشهدها دول القارة من قبل، خاصة على مستوى قفزات أسعار الغاز والمشتقات البترولية وفواتير الكهرباء والتدفئة والمواصلات، كما شهدت أسعار الغذاء قفزات، خاصة سعر القمح والذرة والزيوت واللحوم.
ولم تقف تداعيات حرب أوكرانيا عند هذا الحد، فمن المتوقع أن يهتز الاقتصاد الأوروبي أكثر في حال قطع روسيا إمداداتها من النفط والغاز المتدفقة على دول القارة، وأن تشهد القطاعات الاقتصادية ما يشبه الصدمة، خاصة الصناعة والسياحة والخدمات والزراعة والنقل والشحن مع القفزة المتوقعة في أسعار الوقود خلال فصل الشتاء وربما قبله، وعدم وجود بديل سريع لسد غياب الطاقة الروسية.
ساهم في تهاوي اليورو تردد البنك المركزي الأوروبي في معالجة موجة التضخم العنيفة التي تمر بها الأسواق الأوروبية وتأجيله رفع سعر الفائدة أو التخلي عن سياسة التشدد النقدي.
ففي الوقت الذي شهد فيه سعر الفائدة على الدولار قفزات في الفترة الماضية جعلته العملة الأقوى، نجد أن البنك المركزي الأوروبي يقدم قدماً ويؤخر أخرى في ملف رفع سعر الفائدة، وفي حال رفعها فإنها ستكون في حدود ربع في المائة في الوقت الذي رفع فيه الاحتياطي الفيدرالي الفائدة الشهر الماضي بنسبة 0.75%، ومن المتوقع أن يرفعها بنفس النسبة في اجتماع يوم 27 يوليو الحالي.
ساهم في تهاوي اليورو تردد المركزي الأوروبي في معالجة موجة التضخم العنيفة التي تمر بها الأسواق الأوروبية وتأجيله رفع الفائدة
تراجع اليورو يمكن أن تكون له تأثيرات سلبية على الدول العربية التي لديها ارتباط قوي بالاقتصاد الأوروبي، خاصة على مستوى التجارة الخارجية والاستثمارات المباشرة والأنشطة الخدمية مثل السياحة والسفر والطيران وحركة تحويلات المغتربين.
مثلا من بين تلك التأثيرات المتوقعة تراجع تدفق السياح الأوروبيين على المنتجعات والشواطئ العربية، خاصة في دول مثل مصر وتونس والمغرب والجزائر والأردن ولبنان، وهي الدول التي تستقطب ملايين السياح من دول القارة سنويا، خاصة من ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا والدول الإسكندنافية.
فالمواطن الأوروبي بات لا يمتلك السيولة الكافية التي يمكن تخصيصها للسياحة والترفيه والسفر إلى الخارج مع غلاء الأسعار وفواتير الخدمات العامة وتراجع قدرته الشرائية.
تراجع اليورو يؤثر سلبا على تحويلات المغتربين العرب والسياحة والاستثمارات الأوروبية المتجهة إلى دول المنطقة
أيضا مع انكماش الاقتصاد الأوروبي وتراجع معدل نموه وسيطرة التضخم على الأسواق، فإنه من المتوقع أن تتراجع تحويلات المغتربين العرب العاملين في دول القارة، علما بأن هذه التحويلات تمثل المصدر الأول للنقد الأجنبي لبعض الاقتصادات العربية.
ومع تلاشي آمال الانتعاش داخل القارة وإصابة الاقتصاد بالركود التضخمي وتراجع أرباح الشركات الكبرى وإصابة بعضها بالإفلاس والتعثر المالي بسبب زيادة تكلفة الإنتاج، فإنه من المتوقع تراجع حركة رؤوس الأموال الأوروبية المتدفقة على دول المنطقة سواء في صورة استثمارات مباشرة في مشروعات إنتاجية، أو أموال ساخنة موجهة للاستثمار في البورصات وأدوات الدين العربية.
لكن الصورة ليست بهذه القتامة، فالدول العربية يمكن أن تحول بعض هذه الخسائر إلى مكاسب، مثلا مع تهاوي اليورو وقفزات الأسعار يمكن زيادة الصادرات العربية لأوروبا سواء كانت سلعا غذائية وبتروكيماويات وغيرها أو وقودا مثل الغاز المسال، وفي المقابل تتراجع قيمة الواردات الأوروبية المتجهة لأسواق المنطقة، وهو ما يخفف الضغط على الميزان التجاري لبعض الدول.
كما يمكن إقناع مستثمرين أوروبيين بالقدوم لدول المنطقة مع وجود فرص استثمار جذابة وذات عوائد عالية. وهناك فرص كبيرة أمام الدول المنتجة للغاز لزيادة صادراتها من الطاقة لأسواق الطاقة، وفي مقدمة هذه الدول مصر والجزائر.
هذا على مستوى الدول الحكومات، فماذا عن مستوى الأفراد والمستثمرين الراغبين في حيازة العملة الأوربية، كيف يمكنهم الاستفادة من هذا التهاوي، وهل الوقت مناسب لشراء اليورو؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في مقال لاحق.