يكشف تجاذب المصالح بين طهران وموسكو في أنشطة التجارة والطاقة والأسلحة والمشاريع النووية في السنوات الأخيرة الأبعاد الاستراتيجية لسياسات روسيا في المنطقة العربية.
وحسب خبراء تستهدف موسكو من تعاونها التجاري والنفطي والدفاعي مع طهران خدمة مجموعة من المصالح أهمها الحد من النفوذ الأميركي في المنطقة خاصة في الخليج، والالتفاف على العقوبات الغربية المفروضة عليها منذ سنوات بسبب برنامجها النووي، كما توظف موسكو دعمها لإيران في التخصيب والوقود النووي ومفاوضات الملف النووي واستخدامها ورقة ضغط على دول مجلس التعاون الخليجي.
وتتخوف دول الخليج والسعودية تحديدا من إحتمال تحول إيران إلى قوة نووية في وقت تركز فيه السياسة الأميركية على آسيا وتنسحب تدريجياً من منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي تستخدم موسكو مخاوف دول الخليج من أطماع طهران التوسعية في تعزيز نفوذها في تحالف "أوبك +" والاستثمار في الطاقة الإيرانية، وبالتالي التحكم في المعروض العالمي من النفط وتحديد أسعاره.
ومعروف أن الطاقة تلعب دوراً رئيسياً في تحديد مستويات التضخم في الاقتصادات الغربية وعرقلة النمو الاقتصادي، خاصة في كل من أميركا وأوروبا.
ويرى محللون أن موسكو كذلك تريد أن توظف علاقاتها مع طهران لتعزيز هيمنتها على ممرات النفط الاستراتيجية في كل من مضيق هرمز الذي يمر به 17 مليون برميل نفط يومياً، وكذا في البحر الأحمر الذي يمر به يومياً نحو 4.5 ملايين برميل.
أمام هذه الاعتبارات والمصالح المتضاربة يلاحظ تحليل بمعهد السلام الأميركي نشر مؤخرا، أن مصالح كل من طهران وموسكو تتقاطع في أسواق النفط الرئيسية المستوردة للطاقة، خاصة في اثنين من أكبر الأسواق المستهلكة للطاقة وهما السوقان الصيني والهندي.
ورغم مصالح كل من طهران وموسكو في التعاون الاستراتيجي بينهما، تبدو إيران غير راضية عن بطء تنفيذ روسيا للاتفاقيات التجارية الثنائية بين البلدين، ولكن لاحظت دراسة معهد السلام الأميركي، أن التقارب بين البلدين في مواجهة الضغوط الغربية توسع بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وما تبعه من فرض عقوبات غربية واسعة النطاق على موسكو، حيث ربط البلدان شبكاتهما المصرفية لتعويض انقطاعهما عن شبكة الخدمة المالية العالمية بين البنوك "سويفت ـ SWIFT".
كما استخدمت طهران وموسكو وبشكل متزايد العملات الوطنية، الروبل والريال، في تسويات التجارة بدلاً من العملات الأجنبية، خاصة الدولار واليورو، للالتفاف على العقوبات الغربية.
وكانت التجارة الثنائية ضئيلة بين البلدين قبل الحرب الأوكرانية، ولكنها توسعت في العام الماضي. وحسب البيانات الرسمية الإيرانية، زادت الواردات والصادرات بين البلدين بنحو 15% من عام 2021 إلى 4.6 مليارات دولار في نهاية العام الماضي 2022. كما حدد البلدان هدفاً طموحاً لرفع حجم التبادل التجاري السنوي إلى 10 مليارات دولار في التجارة.
لكن ماذا تريد موسكو من طهران، والعكس؟
على الصعيد الإيراني، ترغب طهران في بناء علاقات تجارية تلتف على العقوبات الاقتصادية الأميركية وحماية موسكو في المحافل الدولية وإنشاء ممرات تجارية مباشرة تربطها مع آسيا وروسيا، وعلى رأس هذه الممرات ممر "الشمال ـ الجنوب" للتجارة الاستراتيجي، الذي يتكون من شبكة خطوط بحرية وبرية وسكك حديدية يبلغ طولها 7200 كيلومتر.
ويبدأ الممر من بومباي في الهند ليربط المحيط الهندي ومنطقة الخليج مع بحر قزوين مروراً بإيران، ثم منها يتوجه إلى سان بطرسبرغ الروسية، ومنها إلى شمال أوروبا، وصولاً إلى العاصمة الفنلندية هلسنكي. والممر يستهدف تحويل طهران إلى مركز تجاري رئيسي في المنطقة.
في هذا الصدد، وصف على شمخاني مسؤول الأمن القومي الإيراني السابق، الممر بأنه مشروع استراتيجي، يمكن أن يلعب "دورًا حاسمًا في تغيير جغرافية عبور البضائع في منطقة الشرق الأوسط "، كما يمكن أن يحول الممر إيران إلى منفذ تصدير رئيسي للسلع الزراعية الروسية، وعلى رأسها القمح والحبوب الزيتية، إلى الأسواق بمنطقة الشرق الأوسط.
ولهذه الأسباب، دعا شمخاني في العام الماضي إلى تشكيل لجنة جديدة لدفع إيران وروسيا نحو تنسيق أوثق في مشاريع البنية التحتية مثل السكك الحديدية والطرق السريعة، لكن تعليقات نشرتها مجلة "فورن بوليسي" الأميركية ترى أن الممر تعترضه عقبات رئيسية، إذ إن كلاً من طهران وموسكو تخضعان للعقوبات الغربية في الوقت الراهن، وبالتالي لن تستطيعا الحصول على التقنيات أو تمويل تنفيذ مشاريع ضخمة بهذا الحجم.
وترى "فورين بوليسي" أن النظام الإيراني لديه تاريخ من المبالغة لنتائج الشراكات الاقتصادية الخارجية ودورها في مواجهة العقوبات الاقتصادية الأميركية، كما أن كلا البلدين لا يملكان التقنيات أو التمويل لتنفيذ مشاريع ضخمة بهذا الحجم. وفي ذات الوقت تواجه مشاريع النفط والغاز الطبيعي المشتركة ذات العقبات.
معروف أن لدى موسكو أهدافا استراتيجية في السيطرة على سوق الطاقة العالمي وممراته الاستراتيجية عبر النفوذ من إيران إلى العراق التي لديها مكامن غنية بالطاقة.
وفي عام 2022، التزمت شركة النفط الوطنية الإيرانية وشركة غازبروم الروسية بصفقة بقيمة 40 مليار دولار تطور بموجبها غازبروم حقلين للغاز الطبيعي وستة حقول نفط وخطوط أنابيب وبنية تحتية أخرى داخل إيران خلال العام الجاري 2023، وتجاوزت روسيا الصين كأكبر مستثمر أجنبي في إيران.
ورغم أن الحرب الروسية في أوكرانيا وفرت فرصة أكبر لطهران لتعزيز علاقاتها الدفاعية مع روسيا، ومقايضة تزويد روسيا بالطائرات المسيرة مقابل صفقات لطائرات سوخوي الحديثة، إلا أنها رفعت من حدة التنافس بين البلدين في سوق النفط ومشتقاته في آسيا، خاصة في السوق الصيني والهندي.
ولاحظ تحليل حديث لمعهد السلام الأميركي، أن الغزو الروسي لأوكرانيا وما تبعه من عقوبات غربية على موسكو جعل إيران تخسر تدريجياً دخلها من السوقين الصيني والهندي، حيث تطالب الشركات في كلا البلدين بحسومات عميقة على شحنات النفط المصدرة من إيران بسبب زيادة حصة النفط الروسي في الأسواق الآسيوية، وبالتالي تحولت علاقات الطاقة بين موسكو وطهران من التكامل إلى التنافس.
عقبات فنية
بعيداً عن صعوبات التمويل، يواجه الممر التجاري الاستراتيجي في شقه الغربي، رشت أستارا، صعوبات فنية تتعلق بالبنية التحتية، ويرى تحليل بمعهد السلام الأميركي في هذا الشأن، أن الاختلافات بين روسيا وإيران بشأن مقاييس المسار وأبعاد عربات السكك الحديدية تعقد النقل السلس عبر طريق السكك الحديدية.
كما أن الافتقار إلى عربات النقل والبنية التحتية المتطورة من جانب إيران بسبب القيود الجغرافية ونقص الاستثمارات والنقد الأجنبي المخصص لتمويل تلك النوعية من المشروعات الكبرى يزيد من التعقيدات لإنشاء الممر.
كذلك يشير التحليل إلى أن قدرة الترانزيت الحالية لإيران أقل من 10 ملايين طن، وبالتالي لا يبدو واقعياً الهدف الروسي الإيراني المتمثل في زيادة الشحنات عبر الطريق الغربي إلى ما يصل إلى 15 مليون طن من البضائع سنويًا بحلول عام 2030.
في الواقع، وفقًا لبنك التنمية الأوروبي الآسيوي، يمكن أن تصل حركة مرور الحاويات في الممر إلى 5.9 إلى 11.9 مليون طن بحلول عام 2030 في أفضل الأحوال.
وتهتم كل من روسيا وإيران بشدة بتطوير الفرع الغربي من الممر الذي يشمل خط رشت أستارا، حيث يمر الطريق عبر المقاطعات الأكثر اكتظاظًا بالسكان في كلا البلدين ولديه قدرة كبيرة على نقل البضائع.