كبار السن يعودون للعمل وسط التردي المعيشي في مصر

07 مايو 2023
تعويم الجنيه تسبب في تآكل الدخول وتردي الأوضاع المعيشية (العربي الجديد)
+ الخط -

تتبدد آمال الكثيرين ممن تخطوا سن التقاعد في مصر في الحصول على راحة من رحلة العمل الشاقة التي عانوها على مدار سنوات العمر الطويلة، إذ أضحوا مجبرين على مواصة العمل الشاق في ظل التردي المعيشي وانهيار قيمة الدخول الحقيقية في ظل تدهور الجنيه والغلاء المستمر الذي لا يعرف الهدنة.

يهرع العم صلاح، الذي يشرف على السبعين من عمره، من بيته في حي الحلمية الجديدة وسط القاهرة، إلى ورشته في حي الدقي غربي العاصمة، صباح كل يوم، لعله يظفر ببضع جنيهات تعينه على العيش بجانب مبلغ المعاش الزهيد الذي يتقاضاه.

يصل المتخصص في إصلاح الساعات في موعده الصباحي المعتاد منذ نصف قرن، لم يلتفت إلى خلو الشوارع من المارة، ويحدث نفسه" دقت ساعة العمل". يدرك صلاح الساعاتي، كما يطلق عليه عملاؤه، أو عم صلاح كما يناديه الشباب، أن خلو الشوارع من المارة يعود إلى كونه عطلة سنوية لاحتفال الدولة بعيد العمال، في حين أن هذا العيد لا يهمه في ظل معركة العمل المستمرة الذي يخوضها لمواجهة الغلاء.

قبل سنوات عدة، رتب صلاح لأن يحيل نفسه إلى التقاعد مع حلول سن الستين، ليهنأ بالراحة بعد رحلة شقاء طويلة، لكنه فوجئ بأن الدولة تخصص لأصحاب الأعمال مثله معاشاً لا يزيد عن 1200 جنيه (38.7 دولاراً)، وهو أقل من الحد الأدنى لمعاش موظف حكومي بنحو 70%، وذلك رغم التزامه الدائم بسداد الضرائب والتأمينات الاجتماعية بما يزيد عن 33% من دخله شهرياً. يتحمل صلاح بصبر ضغوط تضخم الأسعار التي تخطت واقعياً ثلاثة أضعاف المستوى السائد في نفس الفترة من العام الماضي 2022.

يجلس العاشق لمهنته، التي تعلمها عن أبيه، على مقعد خشبي، وسط محل ضيق، يتفحص بدأب ساعة قديمة، فككها إلى قطع متناهية الصغر، لا تدرك إلا بعدسة مكبرة يضعها على عينه. يرص "الرقاص"، القلب النابض للساعة، على "التخت" الحامل لماكينة الساعة والتروس، ويرفع علبة "الزمبرك"، القوة الدافعة للتروس، ويربطها بمركز الساعة، ليتحول الكيان المهترئ إلى ساعة دقيقة قيّمة خلال دقائق.

اعتاد الساعاتي المتألق إتقان مهنة يعزف عنها الشباب، لحاجتها إلى مزيد من الصبر والدقة، مع قلة الدخل العائد منها، وندرة العملاء، وغلاء قطع الغيار وصعوبة استيراد القطع الحديثة، بسبب القيود المشددة التي وضعت على استيراد المنتجات من الخارج منذ مارس/آذار 2022.

يتباهى صلاح بأن دقته في إصلاح الساعات القيّمة والقديمة جعلته محل ثقة سفراء وأمراء من دول الخليج، تدفعه إلى البحث عن قطع غيار للساعات المعطوبة مع 3 ورش أخرى، ما زالت هي الباقية في بر مصر، لإصلاح الساعات القديمة والنفيسة، بوسط القاهرة ومنطقة مصر الجديدة.

يعرب عن خيبة آمال جيله ممن تخطو سن التقاعد، لعدم قدرتهم على الراحة، في ظل تراجع قيمة العملة المستمر، وتعويم الجنيه، الذي فقد نحو 60% من قيمته عام 2016، وفي طريقه إلى خسارة 60% من قيمته مرة أخرى مع استمرار التعويم الذي بدأ في مارس/آذار 2022.

وشهد سعر صرف الجنيه تراجعاً أكثر من مرة خلال العام المالي الحالي 2022-2023 الذي ينقضي بنهاية يونيو/حزيران المقبل، حيث انخفض إلى نحو 24.7 جنيهاً للدولار في أكتوبر/ تشرين الأول 2022 ثم إلى ما يقارب 31 جنيهاً للدولار منذ يناير/ كانون الثاني 2023.

تعلم الساعاتي الصبر على دقات أجراس الساعات المعلقة على جدران المحل، معترفاً بأن طول الصبر أدخله في مرحلة الزهد في ملذات الحياة، وأن يتحول العمل الدائم إلى هواية وعبادة، يمارسها بقوة وتأن، رغم الأجور الزهيدة التي يتحصل عليها في نهاية اليوم، وقلة العملاء، الذين اتجه أغلبهم إلى ارتداء الساعات الرقمية، التي يلقون بها في القمامة إذا تعطلت أو يستبدلونها بأخرى أكثر فخامة وجمالاً.

تحول العمل في نظر العم صلاح إلى إدمان، يسعى من خلاله إلى الاستمرار في تدبير حاجات البيت ومصروفاته البسيطة التي لا تتعدى قيمة عدة أكواب من الشاي يحتسيها في الورشة وثمن تذكرة الانتقال من بيته إلى العمل، وها هي قد ارتفعت بقرار حكومي فجر الجمعة الماضي، بعد زيادة سعر السولار بنحو 13.7%، فلا يعرف إجازة لما يسمى بـ"عيد العمال" أو المتقطعة أسبوعياً، أملاً في أن يفتح الله عليه باب رزق.

في الأثناء، توقع المركز المصري للدراسات الاقتصادية في تقرير حول مستقبل الوظائف العالمي لعام 2023، أطلقه المنتدى الاقتصادي العالمي نهاية الأسبوع الماضي، أن تشهد اتجاهات سوق العمل تحولات جوهرية في مصر، حول خلق واختفاء الوظائف.

يرصد التقرير أن صافي الأثر المتوقع خلال السنوات الخمس المقبلة بين خلق وإحلال الوظائف في سوق العمل المصري يبلغ نحو 20%. ويدعو المركز المصري للدراسات الاقتصادية إلى الاهتمام بالفئات الهشة في سوق العمل. خرجت توصيات الخبراء بينما يزيد العم صلاح من جهده ليرضى عملاءه ويحصل على الحد الأدنى الذي يعينه على ضغوط الحياة.

ووفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الحكومي، ارتفع التضخم في المدن المصرية إلى أعلى مستوى له على الإطلاق عند 32.7% في مارس/آذار الماضي، من 31.9% في فبراير/شباط.

ولا ترصد البيانات الحكومية أعداد العمالة من كبار السن في المهن والحرف المختلفة، لكن بيانات صادرة عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أشارت إلى أن عدد كبار السن في مصر وصل إلى 6.9 ملايين مسن في 2022، منهم 3.7 ملايين من الذكور، و3.2 ملايين من الإناث.

المساهمون