استمع إلى الملخص
- **قوانين الإعسار في دول الخليج**: تبنت دول الخليج قوانين إعسار مستوحاة من القانون الأميركي "الفصل الحادي عشر"، مثل الإمارات، السعودية، البحرين، عُمان، والكويت، لتسهيل إعادة هيكلة الشركات وضمان سداد الديون.
- **أهمية قوانين الإفلاس والإعسار في الأردن**: تواجه الشركات الأردنية تحديات كبيرة، مما يستدعي وجود قوانين إفلاس وإعسار مُيسرة لتشجيع الاستثمار. يجب تفعيل قوانين حوكمة الشركات وضمان جدية الشركات في إعادة الهيكلة، مع التفكير في قانون عربي موحد للإعسار.
مضى عليَّ حوالي أربع سنوات منذ أصبحت رئيساً لمجلس إدارة شركة الأسمنت الأردنية "لافارج" إذ كانت مهمتي الأساسية هي إيجاد مخرج يسمح للشركة بالاستمرار في الإنتاج بعدما تعرضت لكثير من الهزات، والدعاوى البيئية المقامة عليها، ومن إضراب العمال فيها، وشدة المنافسة التي تعرضت لها بعدما انتهت مدة الامتياز بصفتها شركة احتكارية.
كان الخيار المتاح أمام مجلس إدارة الشركة واحداً من بديلين لا ثالث لهما. الأول هو إعلان إفلاس الشركة وتصفيتها بعدما بلغ مجموع الديون عليها حوالي 220% من قيمة رأسمالها الاسمي، أو اللجوء إلى قانون الإعسار المالي، الذي يتيح للشركة تجميد ديونها والتوقف عن سدادها وإلغاء الفوائد المترتبة على تلك الديون إلى أن تنتهي مدة الإعسار التي يجب أن تقوم الشركة خلالها بإعادة هيكلة نفسها بحيث تتمكن من سداد كامل الديون التي أقرتها المحكمة المختصة. ولا يعتمد ذلك على قرارات مجلس الإدارة، بل على قرار المشرف على الإعسار والمُعيّن من المحكمة لغايات تطبيق قانون الإعسار وإعادة الهيكلة.
وقد وجدْتُ أن دول مجلس التعاون الخليجي قد توصلت إلى وضع قوانين إعسار تسمح للشركات المساهمة العامة، والشركات المساهمة الخاصة، وشركات الاتجار بالأسهم والأوراق المالية، وشركات السوق الحرة بالاستفادة من ذلك القانون. وفي العام 2016، شرَّعتْ دولة الامارات العربية المتحدة قانون الإفلاس والإعسار. وتبعها عدد من دول الخليج مثل المملكة العربية السعودية، ومملكة البحرين، وسلطنة عُمان. أما في قطر فإن القانون يتحدث عن وسائل تصفية الشركات وفق مشترطات قانونية وتنظيمية تتولى الموافقة والإشراف عليها وزارة التجارة والصناعة القطرية. أما في دولة الكويت فقد صدر قانون الإفلاس (التصفية) في نهاية عام 2020، والواقع أنّ معظم قوانين دول الخليج لا تتعامل كثيراً مع الإعسار، وإنما مع إجراءات التصفية للشركات المتعثرة وغير القادرة على الاستمرار.
وهناك، كما هو واضح، فرق بين التصفية (Liquidation) من جهة والإعسار (Insolvency) من جهة أخرى. وقد وجدت – بحسب فهمي- أن قانون دولة الإمارات هو الأوضح في التفريق بين الأمرين. ولكن فكرة الإعسار أتت في معظمها مستوحاة من قانون الإعسار الأميركي، والمصطلح على تسميته " الفصل الحادي عشر". وهو جزء من قانون الإفلاس أو (Bankruptcy Law). وبموجبه يقوم صاحب الشركة أو من يقوم مقامه بتقديم استدعاء يرجو فيه السماح له بالاستفادة من هذا الفصل لكي يعيد تنظيم الأعمال في الشركة بطريقة تضمن سداد الديون أو بعضها. وإذا قُبل الاستدعاء، فإن مقدم الطلب يُعِد برنامجاً واضحاً لإعادة هيكلة الشركة، وشرح النتائج المتوخاة من تلك الإعادة. وعند القبول بالبرنامج، تعين الجهة المختصة مشرفاً على إعادة الهيكلة بموجب أحكام القانون ويسمى هذا النوع من الإعلان إعلاناً طوعياً من قبل الشركة. لكن يمكن أن يكون إعلان الإعسار غير طوعي " أو بالإكراه" من قبل الدائنين إنقاذاً لما يمكن إنقاذه من الديون التي لهم على الشركة.
ولسنا هنا بصدد الدخول إلى تفاصيل العملية. ولكن تقلب الأسواق والشركات في الاقتصاد العالمي قد ازداد كثيراً. ويقدر أن نسبة تقلب الأيدي العاملة في القطاع الخاص تبلغ 67%، ولكن نرى أن تلك النسبة تنخفض إلى نحو 20% في القطاع الصناعي بموجب دراسة أجرتها المؤسسة الألمانية ( GIZ) بالتعاون مع غرفة صناعة الأردن عام 2018، وكانت المسوحات قد أجريت عن عام 2017. وهي الدراسة الوحيدة من نوعها والتي أخذت هذا العنوان للدراسة في الأردن.
وكثرة تقلب الأيدي العاملة كانت أعلى بين الرجال من النساء، علماً أن بعض الدراسات التي أجريت على سوق العمل عامة تظهر أن معدل تقلب النساء أعلى من الرجال لأن كثيراً منهن يغادرن سوق العمل عند الزواج، أو الحمل والولادة، أو عندما تصبح الأعباء المنزلية متزايدة، ما يدفع المرأة إلى البحث عن عمل بدوام جزئي، أو التفرغ لإدارة المنزل. لكن الأمر في قطاع الصناعة كان مختلفاً.
وانخفاض نسبة تقلب الأيدي العاملة في الصناعة أقل من المعدل العام، لأن معظم الصناعات هي شركات مساهمة عامة وتحتاج إلى الأيدي العاملة المدربة. أما في باقي القطاعات مثل التجارة والنشاطات السياحية والترفيهية، وقطاعات النقل وغيرها، فإن نسبة التقلب في الأيدي العاملة ناشئة عن أن نحو 90% من هذه الشركات هي شركات أسرية إما شراكة بسيطة، وإما ملكية فردية. وهذه الشركات الأسرية لا تدوم طويلاً، وتتقلب فيها الملكية، أو طبيعة العمل، أو الانتقال من مكان إلى آخر، أو بسبب الأجور المتدنية نسبياً، أو التعيينات خارج الإطار الرسمي. وقد أكدت الدراسات أن نصف الشركات الأسرية أو العائلية تدوم لجيلين، ونادراً ما تتجاوز الجيل الثالث بدون تغيير في جوهرها أو هيكلها.
وفي الأردن بالذات، تكون بعض الشركات الكبرى في قطاعات المال والمصارف والخدمات محكومةً من أسرة واحدة مسيطرة عليها، وينطبق عليها ما ينطبق على الشركات الأسرية من قصر العمر وسرعة التقلب. وهذا الأمر مرتبط بكثرة حالات الإعسار التي تواجه هذه الشركات. ولذلك، صار من الضروري وحفاظاً على المناخ الاستثماري في الأردن، وتقليل حالات التأزم فيه، وتشجيع المستثمرين أن يكون للدول الراغبة في جذب الاستثمار قوانين إفلاس وإعسار مُيسرة وسهلة التطبيق.
ويقدر أن عدد الشركات المساهمة العامة التي تباع أسهمها من دون قيمتها الاسمية بنحو 30% من مجموع الشركات التي يتاجر بأسهمها في بورصة عمان. وهذه في معظمها شركات لا تدار على أنها مؤسسات عامة، بل على أنها شركات عائلية يتحكم شخص واحد فيها في القرارات المهمة، ما يقلل من دور مجالس الإدارة. ولهذا شرع الأردن لحوكمة الشركات، ولكي يضمن ذلك، طالب الشركات المساهمة العامة باختيار شخصين من خارج ملاك الشركة ممن تتوفر فيهم شروط النزاهة والحوكمة الرشيدة لكي يكونوا أعضاء في المجلس.
ولكن هذه القوانين في حاجة إلى تفعيل أكثر، واهتمام في الأردن. وتطبق الشركات المساهمة العامة مفهوم الحوكمة في تعيين أشخاص مؤهلين لذلك، ولكن اختيارهم يبقى حكراً على الشخص المتنفذ في الشركة، علماً أن عضوية هؤلاء خاضعة لموافقة مراقب الشركات، وبإشراف من هيئة الأوراق المالية.
أما تطبيق قانون الإفلاس والإعسار، فإنّ كثيراً من المحاكم في الأردن ترد الطلبات لأنها تشك في أن مقدم الطلب يسعى للهروب من الالتزامات التي عليه والاستفادة من الإعفاءات والتخفيضات التي ينص عليها القانون. والواقع أن هذه نقطة ساخنة وجدلية. ولذلك، يجب على المحاكم أن تضمن أن لدى الشركة المتقدمة بطلب الخضوع للإعسار خطة مُحكمة لإعادة الهيكلة، وضمان تطبيقها بفاعلية. وإذا حصل شك في نية أصحاب الشركة، فيمكن إعفاؤهم من إدارة الشركة بموجب القانون، ومن قبل مشرف الإعسار المعين من المحكمة خلال فترة الإعسار حتى تُعاد هيكلة الشركة ويوضع برنامج يكفل سداد الديون المستحقة عليها.
من أبسط المبادئ التي يجب مراعاتها عندما تريد دولة أن تستقطب مزيداً من الاستثمار المحلي والخارجي أن تؤكد تلك الدولة وحكومتُها استعدادهما للحفاظ على الثروة الماثلة في رؤوس أموال الشركات العاملة والمرخصة فيها. فكيف يمكن إقناع مستثمرين جدد بدخول السوق المحلي وضخ أموال فيه إذا كانت الدولة وحكومتها لا تحافظان على الاستثمارات القائمة؟
وأود أن أستذكر في هذا المجال المرحوم الشيخ صالح كامل من المملكة العربية السعودية، والذي كانت تجمعني به علاقة جيدة واحترام متبادل. وقد طلب مني مرة أن أعمل معه على مشروع قانون استثمار عربي موحد تتفق عليه الدول العربية. وعلى الرغم من أهمية المشروع والحاجة إليه لضمان حقوق المستثمر والبلد مستقبل الاستثمار، لم يجد المشروع طريقه إلى القبول، وكالعادة لأسباب سياسية غير مقنعة.
لكنّ فشل تلك الخطوة يجب ألّا يحول دون وضع قانون عربي للإعسار والإفلاس، وتتقيد به جميع الدول، وأن تكون هناك هيئة إشرافية لذلك. ومع أن المسؤولين في القرن الماضي أدركوا أهمية تشجيع الاستثمار العربي المشترك حيث أنشؤوا مؤسسة ضمان الاستثمار وائتمان الصادرات. وتستطيع هذه المؤسسة بالتعاون مع الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وصناديق الاستثمار العربية القطرية في السعودية والكويت أن تجمع جهودها لإنشاء قانون عربي تقوم هي بالإشراف على تنفيذه لمعالجة قضايا الإفلاس والتصفية والإعسار إنقاذاً لكثير من الاستثمارات العربية المشتركة وتشجيعاً للمزيد منها في المستقبل.