قناة السويس وأشباه المُوَصِّلَات

31 مارس 2021
قوات حرس الحدود المصرية تراقب مرور السفن بعد فتح قناة السويس
+ الخط -

فاجأتنا أزمة سفينة الشحن المحشورة في قناة السويس بما لا نعرفه عن قناتنا العزيزة، بعد أن احتلت أخبار إغلاقها وتعطل مئات السفن عند مدخليها، ثم أنباء استئناف الملاحة فيها بعد تحريك السفينة، الصفحات الأولى في أغلب الصحف العالمية الرئيسية، لندرك بما لا يدع مجالاً للشك أن العالم يعرف من أهمية القناة ما لا نعرفه، وربما ما لا نستطيع تحمل مسؤوليته، وفق أساليب الإدارة الحالية، التي يبدو أنها لم تتحرك قيد أنملة مما كانت عليه قبل ما يقرب من نصف قرن.

تناقلت وكالات الأنباء، العالمية طبعاً، أخبار الحادث فور وقوعه، فتوقعت البورصات حدوث تراجع في إمدادات الوقود، وتحديداً النفط، ليرتفع سعره بأكثر من ستة بالمائة، قبل أن يدرك الجميع أن احتياطيات الذهب الأسود في كثير من بقاع العالم كانت متوافرة بصورة تحول دون حدوث اختناقات، فيتراجع السعر. وكانت مواقع الأخبار والصحف المحلية في مصر وقتها على وضعها، منتظرة صدور التعليمات بما يمكن نشره وإعلام المواطن المصري به.
لكن الأنظار التي كانت متوجهة نحو القناة، التي يمر بها 10%-12% من حجم التجارة العالمية، والتي تربط بين مصانع آسيا الناشئة وأسواق أوروبا وأميركا الغنية، ركزت هذه المرة على "وقود عصرنا"، المعروف باسم أشباه الموصلات، التي تستخدم في تصنيع كل ما يستخدم التكنولوجيا الحديثة، بدءاً من الحواسب الآلية والهواتف الذكية، مروراً بالغسالات والثلاجات، ووصولاً إلى السيارات والطائرات، بل وسفن الفضاء، حيث يخشى الكثيرون تفاقم أزمتها مع استمرار إغلاق القناة.
وبعد عام الجائحة، الذي تسبب في تعطيل عمليات التجارة الدولية، وكشف الكثير من عوار نظم التوريد وسلاسل الإمداد، ودفع الحكومات وآلاف الشركات إلى إعادة النظر في نظام شراء عناصر الإنتاج والسلع الوسيطة "في الوقت المناسب Just in time"، ومع العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على بعض الشركات الصينية، قالت وكالة بلومبيرغ للأنباء الشهر الماضي إن إنتاج شركات السيارات حول العالم سيتعرض لانخفاض كبير، بملايين السيارات، وهو ما سيضيع على الصناعة وعلى الاقتصاد العالمي أكثر من 60 مليار دولار خلال الربع الحالي وحده.
والشهر الماضي أيضاً، تسببت الأحوال الجوية شديدة السوء التي ضربت ولاية تكساس الأميركية، أهم منطقة لتصنيع أشباه الموصلات في الولايات المتحدة، في إغلاق ثلاثة مصانع منها، أحدها ألماني وآخر كوري وثالث أميركي لمدة شهر، وقبل جنوح السفينة في القناة بخمسة أيام، اندلع حريق ضخم بأحد مصانع شمال اليابان المنتجة لأشباه الموصلات، ليتقرر إغلاقه لمدة شهر على الأقل، الأمر الذي ضاعف من مأساة نقص أشباه الموصلات التي بدأت العام الماضي.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

وأعدت جريدة وول ستريت جورنال تقريراً عن تأثير النقص في أشباه الموصلات حول العالم على صناعة السيارات، فذكرت أن شركة تويوتا اليابانية قررت إيقاف الإنتاج بمصنعها في جمهورية التشيك، وأن شركتي هوندا ونيسان قررتا إيقاف إنتاج السيارات بمصانعها في الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، وأن شركة فولكس فاغن الألمانية أغلقت مصنعها في البرتغال، وأن أعمال مصنع ميتسوبيشي في الولايات المتحدة تعطلت، وأن شركتي جنرال موتورز وفورد خفضتا إنتاج السيارات في مصانعهما.
ما عرفناه بالصدفة من احتمالات تفاقم أزمة أشباه الموصلات بتعطل الملاحة بقناة السويس لبضعة أيام يسري على أنواع أخرى من السلع التي اتخذت من القناة ممراً رئيسياً لها، منتقلةً من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال، وهو ما يجعلنا نتساءل عن الكفاءة التي تتم بها إدارة هذا المرفق، الآن وخلال العقود الخمسة الأخيرة على الأقل، حين نعرف أن أضخم حصيلة من إيراداته في أي عام لم تصل إلى ستة مليارات دولار، بما فيها الأعوام الخمسة الأخيرة، التي شهدت افتتاح التفريعة الجديدة، وما أشيع عن كونها "هدية مصر للعالم".
تقف مصر الآن في مفترق طرق، فإما أن تستسلم لخسائر السمعة التي تسبب فيها جنوح السفينة، وما أعقبها من سوء إدارة للأزمة، لتصبح القناة "شبه موصلة" بين أطراف العالم، ونفقد نسبة كبيرة مما كنا نتحصل عليه من إيراداتها التي تساهم فيما يدخل البلاد من عملة صعبة، أو أن تقرر الحكومة المصرية إعادة النظر في أسلوب الإدارة المتبع، من أول تطوير الخدمة المقدمة، وحتى أساليب التعامل مع الحوادث إعلامياً عند تكرارها، لا قدر الله، لنتمكن وقتها من إقناع العالم بأننا بالفعل أهم "مُوَصِّل" يمكن الاعتماد عليه في رحلات الشتاء والصيف بين الشرق والغرب.
ولو تمكننا من إقناع العالم بأننا جديرون بالقيام بهذه المهمة، يمكن وقتها التفكير في كيفية استغلال محورية القناة بالنسبة للنظام التجاري العالمي في زيادة حصيلة البلاد من النقد الأجنبي، سواء من خلال تطوير مراكز الخدمات اللوجيستية عند مدخلي القناة في كل اتجاه، أو من خلال تعديل رسوم العبور بالقناة بصورة تأخذ في الاعتبار الطرق البديلة المتاحة وتكلفة المرور بها، وفقاً لتغير الفصول ومستويات أسعار الطاقة، وتحديداً سعر الوقود المستخدم في تسيير البواخر وسعر الكهرباء المستخدمة في تبريد الحاويات المبردة.
خسرت القناة المصرية أعداداً كبيرة من السفن التي كانت تمر بها عندما قررت الحكومة، كما فعلت في مناسبات مختلفة، زيادة رسوم المرور فيها، وكانت أسعار الوقود منخفضة بدرجة تسهل قرار التوجه نحو رأس الرجاء الصالح، كما حدث في شهر مايو / أيار من العام الماضي، حين انخفض سعر النفط ليدور حول مستويات عشرين دولاراً للبرميل.

لكن الظروف الحالية، وتجاوز السعر مستوى 60 دولاراً للبرميل، وارتفاع أسعار الكهرباء حول العالم، مع ما علمناه من اعتماد التجارة الدولية بصورة كبيرة على القناة، يسمح بإعادة النظر في التسعير، وربما وضع معادلة تأخذ في الحسبان أسعار النفط والكهرباء، كما درجة حرارة الجو، لتحديد رسوم العبور بالقناة بصورة ديناميكية، تُعَظِّم إيراداتها، وفي نفس الوقت لا تسمح بانتقال السفن إلى الطرق المنافسة.

المساهمون