ظهرت "ملكة السماء" الطائرة الرئاسية المصرية المنتظرة، في هامبورغ شمالي ألمانيا، بعد اختفاء أثرها، منذ سبتمبر/ أيلول 2021. ورصدت مواقع تتبع صفقات الطائرات حول العالم، مطلع الأسبوع الحالي، دخول الطائرة "بوينغ 747- 8"، التي اشترتها الحكومة، لتصبح "قصراً رئاسياً طائراً" خلال الفترة المقبلة، بعد تسجيلها رسمياً في منظمات الطيران الدولية باسم SU-EGY، منذ 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2021.
وصلت الطائرة إلى مقر "لوفتهانزا تكنيك" Lufthansa Technic، وهي أكبر قاعدة لصيانة طائرات "بوينغ" وتحديثها بعد مصنعها الضخم في مدينة سياتل الأميركية.
قلعة حربية
تتولى وحدة هليموت شميت، في القاعدة، تحويل الطائرة التجارية التي صنعت عام 2010، إلى "قلعة رئاسية" بتجهيز مقصورتها ذات الطابقين إلى مقر رئاسي، يضم حجرات نوم فارهة، وقاعة مؤتمرات وأخرى للاجتماعات، وصالة رياضية، ومركزا لإدارة العمليات العسكرية، بعد تزويدها بنظام حماية متقدمة يعمل بالأشعة تحت الحمراء، ضد الصواريخ، وفرته الولايات المتحدة بنحو 104 ملايين دولار.
من المفارقات أنّ "لوفتهانزا تكنيك" وهي الذراع التقنية لشركة لوفتهانزا للطيران، التي تراجعت عن شراء تلك الطائرة، ضمن صفقة لامتلاك 20 طائرة من نفس الطراز، تعاقدت عليها منذ 15 عاماً. حملت الطائرة رقم 20 في جدول التسليم، وعند تجربتها للطيران للمرة الأولى، في 26 إبريل/ نيسان 2011، اكتشف خبراء "لوفتهانزا" عيوباً فنية بها، جعلتهم يرفضون استلامها، فظلت قابعة بين حظائر شركة بوينغ وأطلال ممرات مطارات معزولة، بصحراء نيفادا الأميركية، إلى أن أعادت "بوينغ" بيعها لمصر، كي تصبح، على الطريقة الأميركية "Air Force 1" الطائرة الرئاسية رقم 1".
ويأتي ذلك على الرغم من أنّ "لوفتهانزا" لم ترض عن الطائرة، عند الاستلام، إلا أنها تعمل حاليا، على تأهيلها، ونقلها للعميل الجديد، الـ VIP، كما تسميه "بوينغ" الذي تفاوض على شرائها في مايو/ أيار 2018، وأنهى التعاقد مع "بوينغ" في يونيو/حزيران 2021، فانتقلت من أميركا، إلى مدينة ميونخ، في 21 أغسطس/ آب 2021، حتى آلت إلى ورش إعادة التأهيل الشامل، في هامبورغ قبيل نهاية العام الماضي.
في نفس موقع طائرة مبارك
من المفارقات أن الطائرة الرئاسية الجديدة، تقبع الآن في نفس موقع تجهيز طائرة الرئيس الراحل حسني مبارك الرئاسية، طراز Air Bus 320-200 ، التي دخلت الخدمة عام 1995، وستواصل مهمتها حتى تأتي "ملكة السماء" إلى القاهرة قبيل يوليو/ تموز 2022.
عندما تدخل قاعدة "لوفتهانزا تكنيك" ستجد على بوابات الورشة العملاقة لإعادة تأهيل الطائرات، وعمل العمرات الجسيمة التي تتطلب ضرورة عودة الطائرة إلى مصنعيها الأصليين، لوحات لافتة. تشير اللوحات التي أطلعنا عليها، أثناء دعوتنا من قبل الشركة، قبيل تسليم طائرة مبارك الرئاسية، إلى: " نحن الشريك المناسب لتحويل أحلامك إلى حقيقة".
فالشركة لديها من المهندسين والفنيين القادرين على إعادة تصميم الطائرة من الداخل، وتطوير صلاحيتها الفنية للطيران، لتكون أسرع وأقوى، وترقية مستواها التقني، بما يحقق رغبات العملاء الاستثنائية.
تدفع الشركات التجارية في الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا طائراتها المتقادمة لعمل العمرات الجسيمة، لكل الأنواع، والأحجام وبخاصة البوينغ، التي يصعب نقلها إلى مصانعها الأصلية في سياتل، بأقصى الغرب الأميركي. وأقامت "بوينغ" مركزاً آخر في بداية القرن الحالي، بمدينة تيانجين بالصين، أطلعنا خلال زيارة خاصة نظمتها لنا إدارة المنطقة الحرة بالمدينة، على طرق تجميع طائرات "إيرباص" و"بوينغ" صغيرة ومتوسطة الحجم، وعمل العمرات الجسيمة للطائرات التجارية الكبيرة.
أحلام كبار العملاء
يختلف مركز "لوفتهانزا تكنيك" بهامبورغ المطلة على بحر الشمال، بقدرته على تحويل أحلام كبار العملاء إلى واقع، بما لديه من مصممين ومهندسين قادرين على توظيف الطرز المعمارية الشرقية والغربية، لخدمة العملاء وبما يحول تلك الطائرات إلى قصور حقيقية، لا تضم قاعات فخمة للنوم والاجتماعات فحسب، بل قاعات للسينما وحمامات سباحة، وبخار " ساونا"، وكذلك ملاعب للإسكواش والألعاب التي يفضلها العملاء.
لم يكن غريبا أن يقودنا في الزيارة، قائد متقاعد، لطائرة طراز "بوينغ 747" ليشرح لنا المميزات التي تدخل لأول مرة في عصر الطيران، عندما تحولت مقاعد الطائرات الملكية والرئاسية، إلى أسرة، ويلحق بإحدها غرف نوم وحمامات سباحة، ومصعد خاص داخلي وخارجي، بناء على طلب صاحبها، الذي كان ملكا عربيا تعرض لأزمة صحية أقعدته عن الحركة لفترة طويلة.
ورُصّت بجوار تلك الطائرة، طائرات أخرى مملوكة لسلطان بروناي وأخرى لأمراء وملوك عرب، حيث يتسابق قادة المنطقة على اظهار العظمة والفخامة على ناقلاتهم، التي يجري العمل بها، وفقا للطلب.
سرية المعلومات
ترفض "لوفتهانزا تكنيك" السماح بتصوير تلك الطائرات، أو معرفة تكلفة عمليات التطوير، حفاظا على سرية الزبائن، وبناء على طلب العملاء، فأغلبهم ملوك ورؤساء وكبار رجال الأعمال من الشرق الأوسط، ودول نامية.
تكتفي "لوفتهانزا تكنيك" بسرد قيمة الطائرة الواردة من الشركة المصنعة، بدون التجهيزات الإضافية، أما الطائرات التجارية، فتفضل الحديث حولها، لتظهر مدى قدرتها على التوفير في عمليات التحديث أو تخفيف وزن الطائرة بما يرفع من قيمتها الاقتصادية والتشغيلية.
تبين تصرفات "لوفتهانزا تكنيك" أسباب عدم قدرة أي من الصحافيين الذين تتبعوا على مدى العامين الماضيين، التكاليف الكلية للطائرة، "ملكة السماء" خاصة بعد أن طلبت الحكومة من الجهة المصنعة "بوينغ"، عدم الإفصاح عن اسم المشتري، وأمرت الحكومة أجهزة الاعلام المحلية، بعدم التعرض لأخبارها سلباً أو إيجاباً، فقد وافق شراؤها، بداية أزمة اقتصادية وتداعيات وباء كورونا واللجوء إلى المزيد من القروض الخارجية.
رفاهية وقت الأزمات
ويواكب وصولها أزمة مالية أشد، حيث تدهور قيمة الجنيه وارتفاع الأسعار وزيادة الدين العام وزيادة الفقر إلى 60% حسب تقارير دولية.
ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، تظهر الطائرة من هذه النوعية بمبلغ يتراوح ما بين 400 مليون، إلى 500 مليون دولار، مع ذلك لم يتبق في الخدمة إلا 25 طائرة منها، حول العالم.
فرغم أن هذه الطائرة ذات الطابقين، وتعمل بأربعة محركات عملاقة، ساهمت في زيادة إقبال المسافرين على الطيران، في فترة ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لقدرتها على حمل 450 مسافرا، والطيران بسرعة 900 كيلو متر في الساعة، لمسافة تمتد نحو 15 ألف كيلو متر بدون توقف، لكنّها أصبحت مرفوضة حالياً، من كافة شركات الطيران التجارية.
بدأ العالم يتنازل عن "ملكة السماء" كما تطلق عليها "بوينغ" لارتفاع استهلاكها للوقود وتكلفة التشغيل، في وقت انتشرت فيه بدائل أكثر حداثة، مثل "بوينغ 777" و"إيرباص 350" ذات المحركين والتي تحمل نفس سعة الركاب، بما يخفف من استهلاك الوقود ويناسب التحولات المطلوبة للتغييرات المناخية في العالم.
يؤكد خبراء الطيران أنّ دوافع الترشيد، وراء تخلي "لوفتهانزا" عن "ملكة السماء" خصوصاً بعدما اتضح في مرحلة التشغيل التجريبي، أنّ الطائرة، أعلى استهلاكا للوقود، بما يعادل 10 آلاف لتر في الساعة، وما بين 5 إلى 6 أضعاف للطائرة المماثلة لها من نفس الطراز.
جاء شراء مصر للطائرة إنقاذاً للشركة المصنعة، في صفقة غير معلومة القيمة والتفاصيل حتى الآن، وتحاط بالسرية كافة التفاصيل الخاصة بالتطوير التي تكون عادة ضعف قيمة الشراء، لا سيما أنّ الطائرة ربضت وسط صحراء قاحلة شديدة الحرارة، نحو 12 عاماً، وتحتاج إلى إعادة تأهيل فني شامل، عدا الإضافات التي ستحولها إلى قصر طائر وقلعة عسكرية حصينة في الهواء.
أسطول الطائرات الرئاسية
ستصبح "ملكة السماء" أيقونة أسطول الطائرات الرئاسية، الذي ضم 4 طائرات فاخرة صغيرة الحجم، من طراز فالكون 7، التي تصنعها شركة "داسو" الفرنسية، المنتجة للطائرات المقاتلة "رافال".
أظهرت الصحف الفرنسية، أنّ قيمة صفقة "فالكون" بلغت 774 مليون دولار، وأن العقد وقع في يوليو/ تموز 2016، أي قبل 3 أشهر من قرار تعويم الجنيه المصري ورفع أسعار المنتجات البترولية وتطبيق برنامج إلغاء الدعم على الكهرباء والمياه والغاز وتحرير أسعار الخدمات الحكومية.
تمتلك مؤسسة الرئاسة أسطولا ضخما من الطائرات، منذ عهد مبارك، الذي اشترى 14 طائرة للخدمة المدنية، على مدار 30 سنة، مازالت تعمل بكفاءة، وتكلفت الطائرة منها نحو 507 ملايين دولار عند تشغيلها.
ستصبح "ملكة السماء" أيقونة أسطول الطائرات الرئاسية، الذي ضم 4 طائرات فاخرة صغيرة الحجم، من طراز فالكون 7، التي تصنعها شركة "داسو" الفرنسية، المنتجة للطائرات المقاتلة "رافال"
كشفت تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات عقب ثورة يناير 2011، عن سوء استغلال الأسطول الرئاسي الضخم في رحلات خاصة بزوجة الرئيس الأسبق ونجله جمال، بتعليمات مباشرة من الأمين العام الأسبق للرئاسة، زكريا عزمي، ومن دون توقيعات رئاسية، وفقا لتحقيق استقصائي نشرته، جريدة الوطن، التابعة لجهات سيادية مصرية، بما أهدر ملايين الدولارات، في تكلفة أطقم التشغيل والصيانة من قبل شركات دولية.
سرب مبالغ فيه
ويعتبر اللواء مجدي عامر مدير الشؤون المالية والإدارية الأسبق بالرئاسة، في تصريحات صحافية، أن عدد الطائرات الموجودة في السرب الرئاسي مبالغ فيه، حيث يكفي وجود 3 طائرات رئاسية لإتمام العمل في خدمات الديوان العام بالرئاسة، لا سيما أنّ هناك عشرات الطائرات العسكرية المعاونة، التي تساهم في خدمة المؤسسة بالكامل.
كانت مؤسسة الرئاسة قد حصلت على أول طائرة خاصة بها، من طراز "بوينغ 707" التي أهداها الشيخ زايد آل نهيان حاكم الامارات، للرئيس الراحل أنور السادات عام 1974، وضم السادات إحدى طائرات مصر للطيران لمؤسسة الرئاسة من طراز "بوينغ 737".
كما أهدى الرئيس الأميركي جيمي كارتر للسادات، طائرة عمودية، طراز Sea King، بينما كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، يستعمل طائرات عسكرية، وإحدى طائرات مصر للطيران، في تحركات طوال فترة حكمه.