قصة يوسف: دروس في إدارة الأزمات الاقتصادية

26 أكتوبر 2020
قامت استراتيجية إدارة الأزمة على اتباع سياسات تقشفية في دورة الرواج(فرانس برس)
+ الخط -

قال يوسف عليه السلام "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم"، والمقصود بعليم هنا، والله هو أعلم، هو علم التنبؤ بالمستقبل، التنبؤ الاقتصادي على وجه الخصوص. فيوسف لديه علم بالمستقبل من تفسيره لرؤيا الملك.
وقد بحثت في كتب التفسير، ولم أجد تفسيراً صريحاً بهذا المعنى، ولكن ربما يكون أقربها هو ما أطلق عليه ابن كثير بصفة عامة "ذو علم وبصيرة بما يتولاه"، وقول شيبة بن نعامة عليم بسني الجدب. "فالبصيرة" يمكن التعبير عنها أيضا "بالرؤية".
 والعليم هو أقصى درجات العلم، لقوله تعالى: "وفوق كل ذي علم عليم". فمهما بلغ أحد من علم، فدائما هناك من هو أعلم منه. وكل العلوم يمكن اكتسابها إلا علم الغيب فهو من اختصاص الخالق، يطلع منه ما يشاء، لمن يشاء من خلقه. 
ولم يوجد أحد حينها أعلم من يوسف بما هو آتٍ من سني القحط، ولذلك كان هو "أعلم" من غيره بمدى الحاجة لاتباع سياسات تقشفية في دورة الرواج، فكان هو الأجدر من غيره بتولي المنصب والأقدر على تنفيذ هذه السياسات، لعلمه بتبعاتها وعواقب عدم تنفيذها، وهذا كان سبب طلبه للمنصب، ولو تولاه غيره لما استطاع تنفيذ هذه السياسات غير المفهومة ولا المقبولة شعبياً. 

ويذكر أن الملك قال ليوسف: ومن لي بتدبير هذه الأمور (أي تطبيق هذه السياسات)؟ ولو جمعت أهل مصر جميعا ما أطاقوا، ولم يكونوا فيه أمناء؛ فقال يوسف عند ذلك: اجعلني على خزائن الأرض. 
 دورتان: رواج يتبعه ركود 
تنبأ يوسف عليه السلام بدورتين اقتصاديتين، دورة رواج تتبعها دروة ركود، ووضع الخطط المناسبة من استثمار، وتوفير، وإنفاق لكل دورة، وإلا لهلك الناس في دورة الركود وحلت بالبلاد كارثة عظيمة، لأنه كان سيحدث توسع في الإنفاق وإسراف في الاستهلاك مع ارتفاع الفوائض، ولن تستغل دورة الرواج بالشكل الأمثل. 
 ومن المؤسف أن هذا هو النمط المتكرر في دول الخليج مع كل دورة رواج وفترة انهيار نفطية. فهناك إسراف وتبذير مع الفوائض النفطية وفشل في استغلالها لتنويع الاقتصادات، وتقشف وعجوزات وضرائب مع الانهيارات.  
فلماذا، وما الذي كان يتوفر ليوسف آنذاك وتفتقده دول الخليج اليوم؟  
السر في الملك وليس في يوسف. فالملك توفرت لدية الإرادة السياسية في الإصلاح، فسعى ليوسف صاحب الاختصاص، للاستعانة بعلمه وكفاءته، فمكنه من حل الأزمة استباقيا، لأن همّ الملك الأول كان هو المصلحة العامة. فسعي الملك لمواجهة الأزمة كان منذ البداية حين قال "يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون". ولم يستكن بعد حصوله على الفتوى، بل واصل السعي لصاحب الفتوى حتى أوكل إليه الأمر كله، لأنه كان الأكثر كفاءة له من غيره، فأوكل الملك الأمر لأهله.  
رد الاعتبار من أعلى سلطة 
كذلك يعطينا يوسف درساً في السمو على صغائر الأمور. فمع سوء معاملتهم له، بسجنه لسنوات في حادثة إفك أُلبست له ظلما وبهتانا، لم يتردد في إنبائهم بما يعلمه من كارثة مقبلة. بل ورسم لهم خطة متكاملة للنجاة منها بدون طلب منهم، وبدون شروط مسبقة منه عليهم، كإطلاق سراحه مثلا من محبسه الذي كان لا يزال فيه، ولم يمنعه من ذلك حب انتقام أو حقد، أو طمع في مقابل. فجاء رد الاعتبار له من القمة. فلم يُسلب جهده وحقوقه الفكرية، ولم يتنكروا له أو ينسوه بعدما قدم لهم وصفته لحل الأزمة، وحصلوا منه على ما يريدون، كما يحدث في أيامنا هذه. 
بل تم الاعتراف التام له بصدقه وعلمه ومكانته من أعلى سلطة في الدولة وهي الملك، الذي عندما تبين له صدق يوسف وعلمه وكفاءته، لم يتركه، بل أنزله المكانة التي يستحقها وتليق به، فقال "ائتوني به أستخلصه لنفسي، فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين"، أي يخص به نفسه دون غيره، نظرا للقيمة العالية التي يمثلها يوسف في نظر الملك، والخدمات الجليلة التي يمكن أن يقدمها له. فمكنه الملك، أي أتاح له الأسباب والثقة، فأمنه واستأمنه على تدبير شؤون مملكته.  
وأطوال الدورات الاقتصادية هي في الغالب كما هي عليه منذ أيام سيدنا يوسف حتى يومنا هذا. فقد أثبتت الدراسات التي أجريت على الاقتصاد الأميركي أن معدل أطوال الدورات الاقتصادية يراوح بين 5 و10 سنوات.
الكفاءة في إدارة الموارد 

أما المقصود بـ"حفيظ"، فليس النزاهة من الفساد والأمانة فحسب (كما يتصور البعض)، فهذا مفروغ منه، وإلا لقال إني "أمين" عليم، ولا عدم الإسراف والتبذير والتخبط والعشوائية، التي تكلف الخزينة العامة أكثر مما يجب، ولكن المقصود بها "الكفاءة" في استغلال الموارد، أي إدارتها بأقل كلفة ممكنة، وهذه تشمل كل المعاني السابقة. 
والمطلوب الكفاءة في إدارة الموارد الناضبة وغير الناضبة وعدم الإسراف والتبذير حتى فيما تمنحه السماء بدون مقابل، لأنك لا تعلم ماذا يخبئ لك المستقبل وماذا سيحدث بعد الفوائض؟ فالمياه والموارد التي قد تكون وفيرة اليوم، قد تنضب أو تكسد غداً. فلا بد من التحوط لأسوأ الاحتمالات.  
وكل درهم تنفقه اليوم له ثمن غداً، فالتبذير والإسراف في الإنفاق، إما أن يؤديا إلى استنزاف الموارد عند الحاجة إليها مستقبلا، أو يرفعان معدلات التضخم، وكلاهما سيئ. وعدم الكفاءة في إدارة الموارد لا تعطي أفضل النتائج، ونهايتها الفشل، أما الفساد فيدمر البلاد والعباد.  
سياسات معاكسة: تقشف أثناء الرواج 
كان يوسف أول اقتصادي نعرفه استخدم سياسات معاكسة للدورة الاقتصادية، أي تقشف في دورة الرواج، وهي سياسات غير شعبية لأنها غير مفهومة. 

لكن كانت لدى يوسف القدرة على الإقناع وتنفيذ هذه السياسات لعلمه بتبعاتها وعواقب عدم تنفيذها، وهذه السياسات يدعو إليها الآن بنك التسويات الدولية، واقتصاديين مرموقين بعد الأزمة المالية العالمية (2008)، لتجنب تراكم الاختلالات في الاقتصاد الكلي أثناء فترات الرواج التي تقود إلى أزمات لاحقا.
وكان هناك إفصاح وشفافية في رسم وتنفيذ هذه السياسات، فيوسف شرح لهم ما هي المشكلة والأزمة المقبلة، وكيفية مواجهتها، وهذا يعزز الثقة واليقين ويدفع الجميع نحو التعاون لإنجاح السياسات في تحقيق أهدافها. 
ويوسف عليه السلام هو أيضا أول اقتصادي نعرفه استخدم سياسات التحوط، بالتخزين والتوفير ومراكمة الموارد في أوقات الفوائض لتستخدم في أوقات الانكماش، لإدارة الدورة الاقتصادية بسلاسة والتخفيف من حدة الانكماش، وهي نفسها الفكرة التي بنيت عليها الصناديق السيادية لإدارة الدورة النفطية. 

المساهمون