عادت السوق السوداء للعملة مرة أخرى في مصر بعد غياب دام ما يقرب من 6 سنوات، صحيح أن هناك من ينكر وجودها، لكن الواقع يؤكد ليس فقط وجودها بل وتغولها وفرض سيطرتها على السوق والمتعاملين، والدليل حجم الطلب اليومي على هذه السوق غير الرسمية من قبل المستوردين والتجار وأصحاب المصانع، بل وحتى من قبل الأفراد العاديين الذين يبحثون عن النقد الأجنبي لتمويل أغراض شخصية منها سداد المصروفات التعليمية لأولادهم في الخارج وكلفة العلاج والسياحة.
وفي ظل امتناع البنوك في الفترة الماضية عن تدبير احتياجات عملائها الدولارية وتمويل الواردات بما فيها السلع الوسيطة ومدخلات الإنتاج والمواد الخام، وتحفظ البنك المركزي في ضخ سيولة دولارية في السوق حفاظا على ما تبقى من احتياطي أجنبي متراجع، وتأخر الحصول على قرض صندوق النقد الدولي وطول أجل المفاوضات، تشهد سوق الصرف الأجنبي حالة من الفوضى الشديدة في ظل تعدد أسعار صرف الدولار، فهناك من يسعر الدولار بنحو 22 جنيها، وهناك من يرفع الرقم إلى 25 جنيها، بل إن السعر وصل في بعض الأوقات إلى ما يفوق تلك الأرقام بالنسبة للطلبات الكبيرة.
ساعد على عودة الفوضى لسوق الصرف أيضا عدة أمور أبرزها حالة الترقب لمفاوضات الحكومة مع صندوق النقد الدولي، والشائعات والتسريبات التي رافقتها، خاصة التي تتحدث عن تعويم كامل للجنيه على غرار ما حدث في العام 2016، كما تتحدث عن سعر مبالغ فيه للدولار عقب حصول مصر على القرض مقارنة بسعره الحالي، وكذا تراجع الآمال بحصول مصر على قرض ضخم يصل إلى نحو 15 مليار دولار كما كانت تأمل الحكومة، ليتراجع الرقم الآن إلى ما بين 3-5 مليارات دولار.
مسؤولون مصريون يتوقعون انخفاض العملة إلى ما بين 22 و24 جنيهاً للدولار
وما ساعد على الفوضى كذلك امتناع البنوك عن تلبية احتياجات عملائها من النقد الأجنبي، وتدافع التجار والمضاربين نحو السوق غير الرسمية للعملة للحصول على احتياجاتهم النقدية، وما رافق ذلك من مضاربات غير مشروعة على العملة باتت تتم خارج القنوات الرسمية ومنها البنوك وشركات الصرافة.
بل إن وسائل إعلام عالمية كبرى لعبت دورا في تغذية حالة القلق والترقب، حينما راحت تتحدث عن توقعات بقفزة الدولار وحاجة البلاد إلى 35 مليار دولار لسداد أعباء الديون الخارجية. وكالة رويترز مثلا نقلت عن مسؤولين مصريين لم تسمهم توقعهم انخفاض العملة المحلية إلى ما بين 22 و24 جنيهاً مقابل الدولار خلال الفترة المقبلة.
صحيح أن حدة السوق السوداء غير الرسمية تقل في عما حدث قبل تعويم الجنيه في 2016، وصحيح أيضا أن البنك المركزي لم يتعامل بعصبية هذه المرة مع تلك السوق ولم يتوسع في إغلاق شركات الصرافة، وصحيح أن العصا الأمنية الغليظة على الشركات خفت بعض الشيء، وبات الجميع يدرك أن تلك العصا والاعتقالات التي جرت في العام 2016 لم تفد سوق الصرف، بل أدت إلى سيطرة تجار العملة على السوق وركوب المضاربين الموجة التي قادت إلى تعويم الجنيه كاملا.
بالتأكيد البنك المركزي لن يقف مكتوف اليدين تجاه ظاهرة فوضى سوق الصرف الأجنبي الخطيرة التي تهدد الاستثمار في أي دولة، وتغذي التضخم وقفزات الأسعار، وتربك التجار وترفع كلفة الإنتاج بدرجة كبيرة، بل وقد تؤدي إلى إغلاق مصانع في ظل ندرة النقد الأجنبي وارتفاع كلف الإنتاج.
علاج تلك الفوضى هو بترها كلية لمخاطرها الشديدة حتى تعود سوق العملة لاستقرارها
وعلاج تلك الفوضى هو بترها كلية لمخاطرها الشديدة حتى تعود سوق العملة لاستقرارها، وتعود معها الحصيلة الدولارية للقنوات الرسمية وهي البنوك وشركات الصرافة، والبتر يبدأ من تخفيف الضغط على هذه السوق من قبل المستوردين، وهذا يتطلب تلبية البنوك احتياجات من النقد الأجنبي، وتغطية البنك المركزي لطلبات البنوك بحيث يكون لديها القدرة على تلبية احتياجات عملائها، وبالتالي يخف الطلب والضغط على السوق غير الرسمية.
كما أن الأمر يتطلب تغطية العجز في أصول صافي الأصول الأجنبية في النظام المصرفي والتي تحولت إلى سالب 369 مليار جنيه (19 مليار دولار)، في يوليو/ تموز مقابل موجب 248 ملياراً في يوليو 2021، حين سحبها البنك المركزي لدعم قيمة العملة في مقابل الدولار، وفقاً لبيانات البنك المركزي.