استقرت الحكومة المصرية على اختيار التوجه إلى تخفيض قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار، لحل أزمتها الطاحنة، بدلاً من إعلان الإفلاس المباشر، وذلك لعدم توفر قدرة على الحصول على المزيد من القروض، سواء من خلال الاتفاقات الثنائية، كما يحدث مع دول الخليج العربي، أو من خلال سوق السندات الدولية، التي يتعذر الوصول إليها في الوقت الحالي.
وعلى ما يبدو، يتوقع البنك المركزي أن يساعد إضعاف قيمة الجنيه على حلّ الأزمة، حين يصل سعر الجنيه مقابل الدولار إلى نقطة يرى عندها المستثمر الأجنبي أنّ الأصول المصرية أصبحت "رخيصة" بصورة تسمح له بشرائها، دون الخوف من حدوث تراجع كبير في قيمتها.
وتستوي في ذلك أصول الشركات المصرية المملوكة للحكومة، أو الأصول المالية، ويقصد بها أدوات الدين بالعملة المحلية، والأخيرة اصطلح على تسميتها "الأموال الساخنة". وارتفع الدولار مقابل الجنيه المصري بأكثر من 55% منذ مارس/ آذار الماضي، في السوق الرسمية، وأكثر من ذلك في السوق الموازية.
يتوقع البنك المركزي أن يساعد إضعاف قيمة الجنيه على حل الأزمة، حين يصل سعر الجنيه مقابل الدولار إلى نقطة يرى عندها المستثمر الأجنبي أن الأصول المصرية أصبحت "رخيصة" بصورة تسمح له بشرائها، دون الخوف من حدوث تراجع كبير في قيمتها
لكن هذه السياسة سيكون لها بالتأكيد الكثير من الآثار الجانبية. فأولاً، تتراجع القيمة الحقيقية لأجور ومرتبات وثروات المصريين مع كل تخفيض للجنيه المصري، باستثناء من يحصلون على رواتبهم بالعملة الأجنبية، أو من تسارع شركاتهم، في القطاع الخاص بالتأكيد، لتعويضهم عن انخفاض قيمة العملة المحلية.
ومن ناحية أخرى، فقد أثبتت الأشهر الأخيرة، منذ بدء تخفيض قيمة الجنيه في مارس/ آذار الماضي، أنّ التجار في مصر لا يرفعون الأسعار بما يعكس الارتفاع الذي حدث بالفعل في سعر الدولار مقابل الجنيه، ولكن بما يعكس توقعاتهم لما سيكون عليه سعر الدولار مقابل الجنيه في الفترات القادمة، والذي يكون أعلى، في أغلب الأحوال. وهذا يزيد من معاناة المصريين، ويتسبب في مضاعفة التأثير السلبي لانخفاض قيمة عملتهم.
ارتفع الدولار مقابل الجنيه المصري بأكثر من 55% منذ مارس/ آذار الماضي، في السوق الرسمية، وأكثر من ذلك في السوق الموازية
وتضاف إلى ذلك التأثيرات السلبية التي تترتب على بيع حصة الحكومة في الشركات التي سيطلب المستثمرون شراءها، ومنها منح الأجانب حصصاً في بعض الصناعات الاستراتيجية في البلاد، كما حدث في الصفقات السابقة، واحتمالات توجه الإدارات الجديدة في تلك الشركات للاستغناء عن بعض العاملين فيها، والسيطرة على عدد كبير من اللاعبين في بعض الصناعات، كما حدث خلال السنوات السابقة، وبصفة خاصة في قطاع البنوك، والاتصالات، والصحة، والتعليم، ثم أخيراً حرمان الحكومة من الأرباح التي تحققها تلك الشركات، وربما زيادة الضغط على الجنيه مرة أخرى، لتحويل أرباح أصحاب الشركات الجدد إلى بلادهم.
اختيار حلّ الأزمة من خلال إضعاف العملة إذاً يحمل الكثير من التكاليف والأعباء، ولا يخلو من المخاطر، إلا أنه من الواضح أنّ صندوق النقد الدولي كان له دوره في توجه أصحاب القرار في مصر إليه. وتذهب آراء العديد من المحللين المتابعين للشأن المصري إلى أنّ التأخر في إقرار الموافقة النهائية للصندوق على إعطاء مصر الدفعة الأولى من القرض، مرجعه إلى عدم سماح البنك المركزي المصري بالتعويم الكامل حتى الآن.
ولما كان التعويم الكامل للجنيه هو شرط أساسي لنجاح تلك السياسة، فسيكون من المؤكد استمرار تراجع قيمته، ربما أبعد مما تعكسه السوق الموازية في الوقت الحالي، قبل وصول الاستثمارات الأجنبية المأمولة، وهو ما يعرّض البلاد للوصول إلى الحالة اللبنانية الحالية.
ولكن، يساعد في تخفيف الصدمة، ويحد من تدهور قيمة الجنيه، فرض قيود حقيقية على عمليات الاستيراد من الخارج، التي استنزفت وما زالت، حصيلة مصر من العملات الأجنبية، واحتياطي النقد الأجنبي فيها، وما تحصلنا عليه من قروض، خلال السنوات الأخيرة، دون أن نتحول إلى بلد منتج ومصدر، بالمعايير العالمية، أو ننجح في إحلال الواردات بالمنتجات المصنعة في مصر.
اختيار حل الأزمة من خلال إضعاف العملة إذاً يحمل الكثير من التكاليف والأعباء، ولا يخلو من المخاطر
وأكد بعض الأصدقاء في القطاع المصرفي المصري تلقيهم تعليمات رسمية من البنك المركزي، بعدم فتح اعتمادات لاستيراد السيارات من الخارج، وهي خطوة رائعة، إن نفذت، كونها تسمح للبلاد بتوفير ما يقرب من ثمانية مليارات من الدولارات سنوياً، إن شمل القرار قطع غيار السيارات.
أغمض عينيك وتخيل معي ما يمكن أن نوفره، لو امتد مثل هذا القرار لمنع استيراد الأجهزة الكهربائية التي توجد لها بدائل مصرية، وتم تقديم التسهيلات للمصانع المصرية للتوسع في إنتاجها من هذه السلع، من قطع أراض بأسعار منخفضة، وإعفاءات ضريبية، ومنحت لها الفرصة لتطوير إنتاجها، وتعيين الكفاءات من الطاقات البشرية المعطلة.
لم تحل قروض الصندوق مشاكلنا، بل تسببت في زيادتها وتعقيدها، وأدخلتنا في العديد من الأزمات
هذا الأمر لا يسري بالتأكيد على الأجهزة الكهربائية فقط، وإنما يمتد ليشمل كافة أنواع السلع المفتوح باب استيرادها من الخارج على مصراعيه، إلا أنه لن يرضي الصندوق، الذي لم يستح، ووضع نقطة إلغاء إلزام المستوردين بفتح الاعتمادات المستندية شرطاً أساسياً للحصول على القرض الهزيل.
شخصياً أراها فرصة جيدة للضرب بقرض الصندوق عرض الحائط، والمضي قدماً في تقييد الاستيراد، إلا في ما يخص ما لا يمكن الاستغناء عنه، كالأدوية والأدوات الطبية الضرورية، مع التوسع في تشجيع المستثمرين المصريين على التصنيع والتصدير، وهو ما يمكن أن يؤتي ثماره خلال عامٍ واحد، وربما أقل من ذلك.
لم تحل قروض الصندوق مشاكلنا، بل تسببت في زيادتها وتعقيدها، وأدخلتنا في العديد من الأزمات. وعلينا أن ندرك أن الصندوق ليس مؤسسة خيرية توزع أموالها على الفقراء، وأكاد أقول إنها ليست مؤسسة اقتصادية، وإنما مؤسسة سياسية، تسعى لتحقيق أهدافها، وأهداف الدول التي تسيطر عليها.
يتعين علينا أن نعي أنّ قضية إحلال الواردات بمنتجات مصرية هي مسألة حياة أو موت للمصريين. فإن لم نفعل ذلك برغبتنا الآن، تقول تطورات الأمور خلال الأشهر الأخيرة إننا سنضطر لفعله مرغمين، خلال فترة لن تطول، وسندفع بالتأكيد ثمناً غالياً، قبل الوصول إلى تلك النقطة.