استمع إلى الملخص
- **استيراد الغاز وتكاليفه الباهظة**: استيراد الغاز المسال بأسعار مرتفعة زاد من الأعباء المالية، وكان يمكن تجنبها بصفقات مبكرة. الحكومة مطالبة بسداد ديون لشركات الإنتاج الدولية، مما يعقد الوضع الاقتصادي.
- **تحديات الإنتاج والعلاقات مع الشركات الدولية**: تراجع إنتاجية حقول الغاز الرئيسية دفع الحكومة لتحسين العلاقات مع شركات مثل "إيني" و"بريتش بتروليم"، لكن الضغط على الآبار أدى إلى تدهور الإنتاج، مما يتطلب مراجعة استراتيجية التشغيل.
يفاقم ضمور غاز مصر من أزمة الكهرباء التي تتجه من سيئ إلى أسوأ، وفقاً لما تؤكده الأرقام المتداولة عن شبكة توزيع الغاز الوطنية والتزام الحكومة بجدول انقطاع التيار عن المواطنين والأحياء في المحافظات، حيث تتعرض أهم ثلاث مناطق إنتاج كبرى للغاز في المياه العميقة بالبحر المتوسط وشمال غرب الدلتا، إلى التراجع الحاد، مع انخفاض معدلات استخراج الغاز من المشروعات البرية في الجيزة والفيوم وكينج مريوط بالإسكندرية، وتأكيد شركات الإنتاج الدولية أن عمليات الاستكشافات التي تدرسها على مدار 10 سنوات، بأن الكميات المستقبلية للإنتاج بالمواقع الجديدة، غير اقتصادية.
وقد عجلت الأزمة الحادة الضاربة في إنتاج غاز مصر المتداعي بدفع وزارة البترول على مدار اليومين الماضيين، لخمس سفن من إجمالي 21 شحنة غاز اشترتها من السوق الفورية للغاز لاستهلاكها خلال أشهر يوليو وأغسطس وسبتمبر 2024، بنحو 1.18 مليار دولار، لضمان توفير الحد الأدنى من احتياجات البلاد من الغاز يومياً، في ظل تزايد عجز الإنتاج وتعرض المصانع الكبرى للتوقف.
عملياً، تسبب أزمة غاز مصر فوضى شديدة في قطاعات الصناعة والكهرباء والتجارة الداخلية. يوفر الغاز نحو 70% من احتياجات قطاع الكهرباء للمحروقات يومياً، أدى تراجع عمليات الإنتاج إلى استمرار انقطاع التيار ما بين ساعتين إلى 4 ساعات يومياً في أنحاء البلاد، وتذبذب عمليات تشغيل مصانع الأسمدة، سبّب رفع أسعار طن السمادة من 12 ألف إلى 24 ألف طن خلال شهري يونيو ويوليو 2024، مع شح هائل في العرض المحلي وتراجع الصادرات للأسواق الدولية.
في هذا الصدد، يتوقع خبراء تحدثوا لـ"العربي الجديد" شرط عدم ذكر أسمائهم، أن تمتد أزمة غاز مصر لسنوات، لتظل جداول انقطاعات التيار سائدة لسنوات، في ظل عدم زيادة إنتاج الطاقة الجديدة والمتجددة بمعدلات كبيرة، وتراجع إنتاج آبار الغاز والنفط، وارتفاع معدلات الدين الخارجي ونقص النقد الأجنبي.
وتدفع الأزمة الحكومة إلى شراء الغاز المسال بسعر 13 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، بما يمثل ضعف القيمة السوقية، وفقاً لتصريحات الدكتور محمد فؤاد خبير اقتصاديات الطاقة والبرلماني السابق لــ" العربي الجديد".
يشير فؤاد إلى أن شراء صفقات الغاز الفورية من السوق الدولية، عملية شديدة الكلفة، بينما كان يمكن أن تتفادى الحكومة المزيد من الخسائر وانقطاعات التيار الكهربائي، بإبرام صفقات مبكرة بأسعار مقبولة، تبلغ نحو 6.5 دولارات لكل مليون وحدة حرارية، وهي الأسعار نفسها التي تحصل عليها بعقود طويلة الأجل مع إسرائيل.
وسبق أن أعلنت الشركة القابضة للغاز "إيجاس" أن شحنات الغاز بكمية تبلغ نحو 155 ألف متر مكعب من الغاز المسال، تستهدف توفير احتياجات محطات الكهرباء من الوقود وتخفيف الأحمال للأسبوع الثالث من يوليو الجاري، فيما تدفع أزمة غاز مصر الحكومة إلى مطالبة الشركات المنتجة بزيادة الإنتاج في آبار البترول عن مستوياتها الإنتاجية الطبيعية، بما يضر بخزانات الآبار والعمليات الإنتاجية.
واقعاً، تحولت مصر من مصدر للغاز المسال بقيمة 7.14 ملايين طن يناير 2023، إلى مستورد للغاز بعد أن تبددت آمال الدولة في حقل ظهر الذي انخفض إنتاجه بنسبة 59% من قدرته الإنتاجية، ليصل إلى 1.9 مليار قدم مكعب بدلاً من 2.7 مليار قدم مكعب يومياً، وسط انسحابات من شركات الاستكشاف الكبرى، وتخلي بعضها عن مناطق إنتاجية واعدة، تمارس شركات إنتاج النفط والغاز الدولية ضغوطاً على الحكومة لرفع حصتها من عوائد حقول الإنتاج الحالية، وسداد ديون مستحقة لها عن عامين سابقين، بقيمة 6.7 مليارات دولار، مقابل الالتزام باستمرار أعمالها.
ووسط تحديات اقتصاد منهك يشهد انهياراً حاداً بعوائد قناة السويس وانقطاع التيار الكهربائي، تدفع الحكومة إلى بيع الأصول والأراضي العامة، لسداد الدين الخارجي المتصاعد، سددت الحكومة 1.2 مليار دولار الشهر الماضي، من مستحقات شركات البترول، زادت النسبة إلى 25% لشركة "إيني" الإيطالية، مكتفية على لسان مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء، بسداد الديون على أقساط متتالية، من دون تحديد سقف زمني، بما أغضب شركات الإنتاج، خاصة الشركات التي تورد إنتاجها إلى شبكة الغاز المحلية مباشرة.
وقد أدى عدم التزام الحكومة بجدول سداد الديون للشركات الأجنبية، إلى تجميد موقف شركات التطوير والاستكشاف، وعدم توجه الشركات المنتجة للصرف على زيادة معدلات إنتاج غاز مصر المتراجع، لحين" تحسن مناخ الاستثمار" و"تحسين المركز المستحق للشركات الحاصلة على الامتياز". وتخلت الشركات الكبرى عن مناطق الاستكشاف الحدودية، ومنها بريتش بتروليم، التي تنازلت عن منطقة شمال السلوم، وتنازلت " توتال إنيرجي" الفرنسية عن حصتها في منطقة شمال الحماد البحرية التي تشارك فيها بحصة 25% مع شركة إيني الإيطالية، وحصتها في مصنع تسييل الغاز في أدكو الذي تديره شل الهولندية، بطاقة إنتاجية 7.2 ملايين طن غاز مسال سنوياً.
وأكد الخبراء لـ"العربي الجديد" انخفاضاً جديداً في إنتاج غاز مصر إلى أقل من خمسة مليارات قدم مكعب يومياً، ليعود بالإنتاج الكلي من الغاز إلى مستويات عام 2017، قبل تشغيل حقل" ظهر، بينما تزيد احتياجات البلاد عن 6.3 مليارات قدم مكعب يومياً.
في هذه الأثناء، يحاول كريم البدوي وزير البترول الجديد استغلال خلفيته السابقة، بعمله في شركات الاستكشاف والتشغيل الدولية، إصلاح العلاقات المتوترة بين هيئة البترول، والشركاء الأجانب، لجسر الهوة العميقة بين الحكومة ومستثمري غاز مصر ونفطها.
أجرى البدوي مشاورات مع قيادات "إيني" الذين قابلوه عقب توليه منصبه الأسبوع الماضي، لإزالة التوتر الذي انفجر بعد تراجع الإنتاج في حقل "ظهر" وسبل دفع مستحقات الدائن الأكبر للوزارة، وإمكانية تعويض الانخفاض الهائل في إنتاج آبار ظهر في الفترة المقبلة. منحت الحكومة" إيني" امتيازاً بنسبة 100% للبحث عن الغاز مع شمال بور فؤاد مع زيادة حصصتها بنسبة 34% منفردة، مقابل 33% لبريتش بتروليم و33% قطر للطاقة، للبحث عن الغاز شرق بورسعيد.
دعا الخبراء الحكومة إلى أهمية مراجعة استراتيجيتها في تشغيل آبار غاز مصر بأن تعلم أن حاجتها الماسة إلى الغاز التي تدفعها إلى الضغط الهائل بما يفوق قدرة الآبار على التدفق الطبيعي للغاز، سيكون ثمنه فادحاً.
تراجع الإنتاج في حقل "رافين" ثاني أكبر منتج لكميات غاز مصر والذي تدير وتشغله شركة بتريتش بتروليم" BP" الشهر الجاري إلى 50% من طاقته الإنتاجية، منذ يناير 2023. يعد حقل" رافين" أكبر مساهم منفرد في إنتاج المكثفات، في البلاد، والتي تستخدم في صناعة البتروكيماويات والأسمدة، إذ يساهم في إنتاج 42 ألف برميل يومياً من المكثفات منذ2021، بما يمثل ثلثي الطاقة الإنتاجية على مستوى البلاد والتي تقدر بنحو 60 ألف برميل يومياً 2022، بينما انخفضت في مايو الماضي 2024 إلى أدنى مستوى لها منذ فبراير 2021، لتصل إلى 43 ألفاً و500 برميل فقط، التي تأتي أغلبها من آبار الجيزة والفيوم وليبرا وتاروس.
وتؤكد بيانات وزارة البترول إلى أن مستوى الإنتاج في حقل" رافين" بلغ حده الأدنى منذ عام 2017، حيث أنتج 4.99 مليارات قدم مكعب يومياً في شهر مايو 2024، متراجعاً عن مستوى 5 مليارات قدم مكعب يومياً في مارس 2017. تشير البيانات إلى تراجع جماعي في الإنتاج بمشروعات البحر المتوسط، وغرب دلتا النيل في منطقتي برج البرلس وانخفاض الإنتاج في حقلي ليبرا وتاروس مع تراجع أشد قسوة في إنتاج حقول الفيوم والجيزة.
ويدفع الانخفاض السريع في إنتاج الحقول البحرية شمال غرب الدلتا ورافين، إلى عدم وصول المشروع التابع للشركة البريطانية، إلى هدفه المخطط له منذ سنوات، بنحو 1.2 مليار قدم مكعب يومياً أو الاستفادة الكاملة من المعدات ومعامل التشغيل، التي يمكن أن تستوعب نحو 1.4 مليار قدم مكعب يومياً.
تسعى بتريتش بتروليم الحصول على المتأخرات المالية، لزيادة عمليات الحفر لبئرين جديدين في حقل " رافين" وزيادة الإنتاج من الآبار بنحو 200 مليون قدم مكعب من الغاز يومياً، اعتباراً من سبتمبر/ أيلول المقبل. وبعد حصول تحالف شركتي البريطانية وشيفرون الأميركية، على مساحات اكتشاف واسعة حقول "النرجس" شمال بورسعيد، شمال غرب دلتا النيل، ومنطقة شمال غرب أبو قير البحرية، طلبتا من الحكومة رفع حصتهما في المشروعات التي تتولى امتياز الحفر والإنتاج بها، التي لم يتم الانتهاء منها.
هذا وتواجه شركة " شل" الهولندية تراجعاً سريعاً للأداء مقارنة بالأهداف المرجوة من المشروعات التابعة لها في المياه العميقة غرب دلتا النيل. تنازلت "شل" مؤخراً عن منطقتي شمال الفنار وشمال سيدي جابر. تأمل الحكومة إقناع شركة بريتش بتروليم التي تنازلت عن 50% من حصتها لشركة " شل" الهولندية، في منطقة امتياز شمال برج البرلس بكفر الشيخ، الذي تتملك " إيني 50% من الحصة الإجمالية للمشروع، عن العودة إلى العمل.
عرقل الحظر الأميركي المفروض على روسيا من توقيع الحكومة على منح امتياز لشركة Zarubezhneft الروسية بنسبة 36.85% ضمن تحالف شركات غربية، للبحث عن غاز مصر جنوب مدينة دسوق غرب دلتا النيل، لإنتاج 40 مليون قدم مكعب يومياً. دفع الحظر الأميركي وزارة البترول إلى دراسة إعادة عطاءات مشروع الاستكشاف في المنطقة من جديد، لتجنب العقوبات الأميركية، التي تفرضها على الشركات والدول التي ترفض تنفيذ عقوبات الحظر، المفروضة على مدار عامي 2022-2023.
أكد موقع "ميس" المتخصص في إعداد دراسات الغاز والبترول، على لسان مصادر مطلعة بصناعة البترول" إن تشغيل آبار الغاز فوق طاقتها القصوى موضوع متكرر، أدى إلى انهيار الإنتاج بمشروعات واعدة بعد تعديل سقف الإنتاج المرتفع والمحفوف بالمخاطر، منها حقول " ظهر" التابعة لشركة ايني الإيطالية، وشمال غرب الدلتا" التي تشغلها " شل الهولندية" والمياه العميقة في البحر المتوسط التي تديرها شركة بتريتش بتروليم البريطانية BP.
ويشير الخبراء في قطاع الطاقة لـ"العربي الجديد" إلى اعتياد الحكومات على تعريض الآبار للإجهاد، حيث تحرص على زيادة الإنتاج لسد حاجتها من المحروقات، بما يسبب مشكلات اختراق المياه للآبار، مثلما حدث مع الحقول التي تديرها شركتا "شل" و"إيني" في مياه البحر المتوسط، منوهين إلى أن إنتاج "ظهر" الذي بدأ الإنتاج عام 2017، وصل إلى ذروته الإنتاجية عند 2.96 مليار قدم مكعب يومياً فبراير/ شباط 2021، ليتجه إلى الانخفاض عقب تلك الفترة، ليصل إلى 1.85 مليار قدم مكعب حالياً، بما يمثل 42% من سعة مخطط لها بنحو 3.2 مليارات قدم مكعب يومياً، تمثل 50% من حاجة البلاد من الغاز يومياً.
كذلك يؤكد الخبراء لـ"العربي الجديد" أن الحكومة اعتادت تجاهل تحذيرات الشركات التي قدمت مواصفات الإنتاج الأمثل لوزارة البترول، في ظل نقص الغاز على مدى العقد الماضي، لتجنب وصول الإنتاج إلى مستويات الذروة التي تؤدي إلى انهيار المشروعات الرئيسية، والانخفاض الحاد في الحقول الفرعية المغذية لشبكة الغاز الوطنية، التي شهدت هي الأخرى انخفاضات حادة، ولم تتمكن أعمال الحفر والاستكشاف الجارية، من تعويض العجز.
تدفع الأزمة الحكومة إلى الاعتماد على إسرائيل للحصول على الغاز الذي يبلغ نحو مليار قدم مكعب يومياً، وتسعى إلى مضاعفته، بحلول عام 2025، مع توسيع شبكة الغاز التي تربط بين الأراضي المحتلة والعريش. تسبب الأزمة توقف محطات التوليد التي تبلغ قدراتها الاسمية نحو 62 جيغاواط، بينما تصل قدرات التوليد القصوى وفقاً لمعدات الوقود الحالية، نحو 37.2 جيغاواط، تتولى محطات التوليد المائية والمنتجة من الشمس والرياح، نحو 10% منها.
تقطع الحكومة الكهرباء ساعتين يومياً، بهدف توفير نحو 300 مليون دولار، وزيادة إنتاج الطاقة المستخرجة من الرياح والشمس، لترتفع من 10% إلى 20% عام 2025.