لم يدع التونسيون مناسبة اكتمال العقد العاشر على ثورتهم، من دون تذكير بمطالبهم. شهدت تونس منتصف يناير/كانون الثاني الماضي تظاهرات بولاية سليانة على خلفية زجر وتعنيف أحد رجال البوليس لراعي غنم، تتالت الاحتجاجات في ولايات أخرى، وفي طبعة ليلية تشابه الانطلاقة الأولى، لكن في ظل تجاذبات سياسية وتفتت قوى الثورة وتغيير خرائط مواقعها، غير تحركات معادية للثورة المضادة.
كل هذا أنتج تعددا في المواقف من الاحتجاجات ما بين محاولات التوظيف أو الرفض أو التشويه، لكن هذا لا يلغي حقائق أن المحتجين عبروا عن غضبهم تجاه إخفاقات متتالية، في إحداث التنمية وتوفير فرص التشغيل، وإن كانت تونس بفضل الديمقراطية، استطاعت الحد من مستويات الفساد، وسيطرة مجموعات المصالح التابعة للرئيس السابق بن علي، وإنهاء حالة التحكم في إدارة السياسات الاقتصادية من دون رقابة، إلا أن المؤشرات الاقتصادية لا تعبر عن تغيير حقيقي يلبي طموحات جماهير ثورة تونس، والتي لم تُهزم كباقي الثورات العربية.
كما يحمل الحراك المتجدد دلائل على قصور الأداء الاقتصادي، ومن مظاهره توسع البطالة، وبقاء واقع التفاوت الاجتماعي بين الولايات، هذا الخلل عالجته بنود الدستور بما عرف بالتمييز الإيجابي للمناطق الداخلية.
ومع استمرار الأزمة وما أضافته آثار كورونا اقتصاديا خاصة في سوق العمل، وانخفاض عائدات التصدير والسياحة، باتت مناطق في الشمال والجنوب الغربي، ووسط تونس، يشهد أهلها معاناة تؤشر عليها الإحصائيات الرسمية. وقبل الاحتجاجات الأخيرة، شهدت أنحاء تونس احتجاجات متفرقة على مدار أربع سنوات مضت.
ومن أجل الوصول إلى رؤية موضوعية لفهم الحراك، من المفيد أن يتم تحليله في إطار محددات واقعية كبديل عن التفسيرات المسبقة، والتجاذبات السياسية التي تهمش القضايا الاجتماعية وهي تغرق في صراعاتها، وهذا يستلزم تحليل شعارات وأوضاع ومناطق الاحتجاج اقتصاديا واجتماعيا.
مناطق الاحتجاج
نشطت الاحتجاجات جغرافيا في المناطق التي تعاني من التهميش ونقص التنمية، وإن اختلفت مستويات الخصائص الاقتصادية والاجتماعية فيها إلا أن مشكلة البطالة والفقر وتدني مستوى الخدمات هي الأبرز.
تركزت الاحتجاجات في ولاية القصرين وسليانة وتطاوين وسوسة، فضلا عن اتساع الاحتجاج وامتداده إلى أحياء العاصمة وضواحيها، وهو مشهد جديد نسبيا، فغالبا ما كانت تتركز الاحتجاجات في تلك الولايات، وهذا يؤشر على عمومية الأزمة، وأن قطاعات من سكان العاصمة باتت معاناتهم مثيلة لسكان الولايات التي تعاني ندرة فرص العمل، وتضم جهة تونس أربعة أحياء شهدت ثلاثة منها مظاهرات وهي أريانة ومنوبة وبن عروس، وتشير بيانات المعهد الوطني للإحصاء حول خرائط الفقر (سبتمبر 2020) إلى اتساع معدلاته في الشمال والوسط الغربي، وتضرر الشمال الشرقي من تراجع النشاط السياحي.
يضم الشمال الغربي أربع ولايات، ويرتفع الفقر في بعض مناطقها ليتجاوز 45%، وشهدت الكاف وسليانة احتجاجات متفاوتة، وتعرف الأخيرة بميلها للاحتجاج ودورها في الثورة، وكان يرفع أهلها شعار "سليانة شعلة نار" وهي المنطقة التي انطلقت منها سلسلة الاحتجاج، وشهد إقليم الوسط الغربي المكون من ولايات سيدي بوزيد والقصرين والقيروان احتجاجات اجتماعية، وهي بجانب كونها أفقر الجهات بحسب البيانات الرسمية، فإن مناطقها تمثل مهد الثورة التونسية خاصة سيدي بوزيد، وترتفع نسبة الفقر في بعض مناطقها إلى ما يتجاوز 53% حسب تقرير خرائط الفقر. كما شهدت منطقة العيون والقصرين مشاركة نشطة في الاحتجاج وكذلك مناطق الجنوب الشرقي وولاياتها قَابِس ومدنين وتطاوين.
الاحتجاج على واقع الأزمة
ساهم التردي الاقتصادي في اندلاع الاحتجاجات الاجتماعية كتعبير عن منحنى المعاناة خاصة في الولايات، والتي أصبحت بعد الثورة قادرة على التعبير عن مشكلاتها في ظل توفر مساحات من الحرية في المجال العام، لكن ذلك لم يمنع توقيف ما يزيد على ألف متظاهر في أقل من أسبوع، ووفاة متظاهر شاب هو هيكل الراشدي في سبيطلة إحدى مناطق ولاية القصرين في الوسط الغربي من تونس، كما ساهم إحساس الشباب بانغلاق الآفاق في مستقبل ممكن بنشوء حالة عامة يمكن تفهمها في ضوء مؤشرات العمل والزواج وارتفاع معدلات الهجرة غير الشرعية.
وإن كان المجال لا يتسع لرصد مجمل التغيرات الاقتصادية وآثارها على حركة الاحتجاج، إلا أنه يمكن الإشارة إلى بعضها لإيضاح ملامح تأزم الوضع الاقتصادي، والذي يرجع إلى جملة من العوامل الداخلية والخارجية، منها عدم نجاعة السياسات الاقتصادية في خلق وظائف، وضعف بنية القطاعات الإنتاجية، ومؤخرا ما أضافته جائحة كورنا من آثار على السياحة والتصدير، غير آثار الظروف الإقليمية في الجزائر وليبيا.
وتشير بيانات البنك الدولي إلى ارتفاع معدلات الواردات بشكل ملحوظ منذ 2014 وحتى 2018 وتراجع قطاع السياحة في نفس الفترة، ورغم تعافيه عام 2019 إلا أنه انتكس مع الجائحة خلال 2020، وتقلص عدد السياح من 833 ألفا إلى أقل من 50 ألفاً، كان معظمهم من ليبيا والجزائر وفرنسا وألمانيا.
استطاعت الحكومة التونسية خلق استقرار نسبي في معدلات التضخم وسعر صرف الدينار مقابل اليورو والدولار، سجل التضخم 5.6% عام 2020، وسجل الدولار انخفاضا في الفترة من نوفمبر/تشرين الثاني 2019 /2020 حسب البيانات الرسمية، إلا أن السياسات النقدية لا تعالج أصل الخلل الهيكلي، ولا تحل الأزمة الاقتصادية بشكل يخفض مستويات معاناة المواطنين، بل يمكن أن تحقق نتائج عكسية كما جرى في مصر عند تعويم الجنية، بالإضافة إلى أن السياسات النقدية أسهل الحلول التي تطبقها النظم تحت ضغوط أو توصيات المؤسسات المالية الدولية. وفي تجربة مصر دليل واضح على نجاح الحكومة في تقليل نسبة عجز الموازنة وزيادة معاناة المواطنين.
حسب المسح الوطني للسكان انخفضت نسبة البطالة نهاية 2019 إلى 14.9% ثم عاودت الارتفاع، لتصل منتصف 2020 إلى 18%، لينضم إلى المعطلين 161 ألفا، بينما تتجاوز في بعض مناطق الولايات 40%.
جزء من أزمة الاقتصاد التونسي يعود إلى اعتماده على الضرائب، وتضاؤل إيرادات قطاعات الإنتاج، وهو الخلل الجوهري في الاقتصاد، وإن كانت قطاعات الزراعة والسياحة لعبت دوراً في حدوث معدلات نمو طفيفة خلال عامي 2018 /2019 إلا أن الأخيرة شهدت كساداً كبيراً نتائج ظروف الجائحة والتي لا تظهر آثارها بشكل كامل على بعض القطاعات حاليا، بينما خفضت عجز الميزان التجاري نتاج تراجع الاستيراد.
بينما يمثل النشاط في قطاع البناء والتشييد والأشغال العامة 23% حسب بيانات معهد الإحصاء ويرتفع في بعض الولايات كتطاوين والتي شاركت أيضا في الاحتجاجات الغاضبة، لاسيما أن بعض مناطقها تشهد نسب بطالة مرتفعة تبلغ في ذهبية 42% و38% في رمادة، وتصل نسبة العزاب بتونس إلى 38%، وتتجاوز 47% في بعض المناطق، كما تبلغ الأمية بتونس 20% في الفئة العمرية ما بين 10 - 15 عاما، وتتجاوز في بعض المناطق 32% (ولاية سوسة كمثال)، مما يعني تراجع الخدمات التعليمية، وعدم قدرة كثير من الأسر على الحفاظ على استمرارية أبنائهم في الدراسة، ذلك في بلد كان يتباهى بارتفاع معدلات التعليم وجودته.
ألحقت جائحة كورونا ضرراً بالغاً بالاقتصاد التونسي، حسب تقرير لصندوق النقد الدولي صدر في 23 يناير الماضي، زاد الانكماش ومعدلات الفقر والبطالة، لكن الصندوق كعادته يرجع ذلك لأسباب من بينها ارتفاع بنود الأجور وتحويلات المؤسسات العامة، في إشارة إلى بنود الدور الاجتماعي للدولة، وطالب الصندوق بإعطاء أولوية للسيطرة على الأجور، وتخفيض دعم الطاقة والتحويلات إلى المؤسسات العمومية. وفي حال استجابت الحكومة لذلك، سيتفاقم وضع القطاعات الشعبية التي تعاني حاليا، كما جرى في مصر في ظل تطبيق ما سمي بسياسات الإصلاح الاقتصادي.
نرجو أن تكون تجربة إصلاح تونس ليست كمصر ولا تسير في طريق هزيمة الثورة وجمهورها عبر السياسات الاقتصادية للثورة المضادة.