أخيراً وبعد مفاوضات ماراثونية ومعقدة شارك فيها البيت الأبيض والكونغرس أقرت لجنة القواعد في مجلس النواب الأميركي مشروع قانون يقضي برفع سقف الدين العام وأرسلته إلى هيئة المجلس للتصويت عليه.
وإذا ما وافق عليه المجلس، يتعين إقراره من قبل الكونغرس بمجلسيه أيضًا خلال بضعة أيام، لتجنب أزمة اقتصادية عالمية قبل حلول يوم 5 يونيو/حزيران الجاري. الاتفاق الأخير الذي يوصف بأنه تاريخي ويأتي في وقت بالغ الحساسية للاقتصاد الأميركي ينص على رفع سقف الدين العام للولايات المتحدة لمدة سنتين، أي حتى ما بعد الانتخابات الرئاسية في 2024.
وبعد أشهر من إصراره على رفع سقف الدين العام دون الرضوخ لشروط الجمهوريين، ها هو الرئيس جو بايدن يتوصَّل إلى حلّ وسط مع رئيس مجلس النواب كيفن مكارثي بشأن رفع سقف دين الحكومة البالغ 31.4 تريليون دولار لتجنيب البلاد كارثة التخلُّف عن السداد التي تعتبر مدخلاً لمتاهة ركود اقتصادي لا خروج منها. هذا الاتِّفاق ما هو إلا ترياق مؤقَّت يؤجِّل وقوع الكارثة لما بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2024، ولكنه لا يقضى عليها، فقد وصل الدين لمرحلة مستعصية على الحلّ.
بموجب هذا الاتفاق، سيتمّ رفع سقف الدين لمدّة عامين فقط ووضع قيود على الإنفاق غير الدفاعي حتى نهاية العام المقبل ثم رفعه بنسبة 1% في عام 2025 دون اللّجوء إلى رفع الضرائب. كذلك، ينص على خفض 10 مليارات دولار من الأموال المخصصة للخدمات الضريبية لتحديث وتعزيز الضوابط، وهو ما كان مطلبًا ملحا للجمهوريين، واسترداد الأموال المخصصة لمكافحة كوفيد-19 والتي لم تنفق بعد. بالإضافة إلى ذلك، ستعتمد قواعد جديدة للوصول إلى بعض برامج المساعدات الفيدرالية.
ومن المُتوقَّع أيضاً إدخال تعديلات على شروط ومتطلَّبات العمل لمتلقِّي المعونة الغذائية الأميركية والمستفيدين من برامج المساعدات الفيدرالية الأخرى من أجل تشجيع انضمام المزيد من الأشخاص إلى سوق العمل بهدف تعزيز مساهمتهم في دفع الضرائب ودعم برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية، وهو هدف جمهوري لطالما عارضه بشدّة الديمقراطيون الذين ينتمي إليهم بايدن.
لم يكن إتمام صفقة رفع سقف الدين، التي تعتبر حلاًّ وسطاً بين مطالب الديمقراطيين والجمهوريين، ممكناً لولا التحذيرات التي وجَّهتها وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين للكونغرس بشأن المخاوف من تخلُّف بلادها عن سداد التزامات ديونها بحلول الخامس من يونيو/ حزيران في حال عدم تحرُّك المشرِّعين في الوقت المناسب لرفع سقف الديون الفيدرالية للحيلولة دون دخول الاقتصاد مرحلة ركود أقرب ما تكون إلى الكساد، وفقدان ملايين الوظائف، وتضييق الخناق على الأسر، وحدوث هزّة غير مسبوقة في الأسواق، وارتفاع أسعار الفائدة على الاستثمارات، وإثارة الفزع في نفوس المستثمرين، وتراجع أسعار الأسهم، وكذا انخفاض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة التي لن تصبح قادرة بسبب ذلك على الاستدانة من الأسواق المالية بأسعار فائدة منخفضة بسبب القلق والتخوُّف من عدم قدرتها على سداد قروضها.
يعود السبب الرئيسي في إصرار بايدن على رفض التفاوض مع الجمهوريين بشأن خفض الإنفاق الحكومي، بما فيه الموجه لأنشطة البنية التحتية والرعاية الصحية، إلى تجربة الرئيس الأسبق باراك أوباما المريرة مع معضلة رفع سقف الدين في عام 2011 حينما تمَّ التوصُّل إلى رفع سقف الدين بنحو 2.4 تريليون دولار على مرحلتين: الأولى بمبلغ 900 مليار دولار، والثانية بمبلغ 1.5 تريليون دولار، مقابل تخفيض الإنفاق بقيمة 2 تريليون دولار لغاية عام 2013، الأمر الذي انعكس سلباً على الاقتصاد الأميركي وأسعار الأسهم ومدَّخرات التقاعد والتصنيف الائتماني للولايات المتَّحدة، فقد حصل الجمهوريون آنذاك على تخفيضات ضخمة في الإنفاق دون تقديم أية تنازلات فيما يتعلّق بزيادة الضرائب على الأغنياء ورجال الأعمال وإلغاء التخفيضات الضريبية التي استفادت منها الشركات الأميركية الكبرى.
المعركة الدائرة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري بشأن مسألة رفع سقف الدين والتي تم طيها مؤقتا بخطة مدتها عامان ليست وليدة اليوم، بل ترجع إلى عدّة سنوات مضت، حيث يرى الديمقراطيون أنّ التخفيضات الضريبية الموروثة منذ عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن والأزمة المالية لعام 2008 هما سببان رئيسيان في ارتفاع الديون وانخفاض إيرادات الخزينة، لذلك فهم يدافعون بشراسة عن ضرورة زيادة الإنفاق وتقليص الضرائب على المستهلكين بغية تحفيز الطلب الكلّي ومقاومة الركود الاقتصادي ويدعمون الرعاية الصحية العامة الشاملة، بينما ينادي الجمهوريون بضرورة تقليص الإنفاق الحكومي وزيادة الإنفاق العسكري ومنح المزيد من التخفيضات الضريبية للشركات لتمكينها من زيادة استثماراتها وخلق المزيد من الوظائف وتجاوز الصعوبات في منافسة نظيراتها من الشركات العالمية.
ارتفع منسوب الخلاف الأخير حول رفع سقف الدين العام التركيبة السياسية لنظام الحكم في الولايات المتحدة، فالحزب الديمقراطي يحتفظ بالسيطرة على مجلس الشيوخ، الذي يمثِّل المجلس الأعلى في الكونغرس، بمقعد واحد، بينما يتمتَّع الحزب الجمهوري بأغلبية بسيطة في مجلس النواب الذي يمثِّل المجلس الأدنى في الكونغرس، وهذا كان كافيا لعرقلة محاولات الوصول إلى اتِّفاق يرضي الطرفين معاً لولا اختراق بايدن ــ مكارثي الأخير، حيث عمل الحزبان على صياغة مشروع قانون توافقي يجري تمريره في مجلسي الشيوخ والنواب، لذلك هناك حاجة ماسة إلى دعم من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري للفوز بموافقة الكونغرس قبل تخلُّف الولايات المتَّحدة عن سداد التزامات ديونها بحلول الخامس من يونيو/ حزيران.
نتيجة لمأزق سقف الدين، ألغى الرئيس الأميركي بايدن خططه لزيارة بابوا غينيا الجديدة وأستراليا التي كانت مقرَّرة لتعزيز العلاقات الأميركية بجزر المحيط الهادئ ومناقشة تطوُّرات الصراع الأميركي الصيني هناك، وسبق أن ألغى رؤساء أميركيون سابقون زياراتهم الخارجية لمعالجة الأزمات المحلية، فقد ألغى باراك أوباما رحلته إلى إندونيسيا وبروناي في عام 2013 بسبب مشكلة الميزانية التي خلقت أزمة سياسية وأدَّت إلى التوقُّف الجزئي لأنشطة الحكومة، كما ألغى الرئيس الأسبق بيل كلينتون رحلته إلى اليابان لحضور اجتماع منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ في عام 1995 لمعالجة أزمة الميزانية في بلاده.
لولا التوصل لاتفاق برفع سقف الدين بين بايدن ومكارثي كان من الممكن أن تؤدِّي أزمة تخلُّف أميركا عن سداد ديونها إلى الإضرار بسمعتها وإلحاق المزيد من الضرر بمصداقيتها وقيادتها في جميع أنحاء العالم وتقويض موقفها الدولي وتقليل اعتماد الدول الأخرى على الدولار الذي يعتبر العملة الأكثر تداولاً في العالم ويشكِّل ما يقرب من 60٪ من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية، وفقاً لصندوق النقد الدولي.
فعلى سبيل المثال إذا حدث التخلُّف عن سداد الديون واستمرّ لفترة أطول، فستكون هناك عواقب وخيمة على المصانع الصينية التي تزوِّد أميركا بالإلكترونيات، كما سيتكبَّد المستثمرون السويسريون الذين يمتلكون سندات الخزانة الأميركية خسائر فادحة، وستواجه بعض الاقتصادات غير المستقرّة التي تتمسَّك باستخدام الدولار مثل سريلانكا، لبنان والإكوادور صعوبات جمّة، وقد تُغيِّر العديد من البنوك والشركات وجهتها إلى اليورو وبدرجة أقل اليوان الصيني.
خلاصة القول، لأكثر من 200 عام، لم تتخلَّف الولايات المتّحدة قط عن سداد ديونها، وإن فشلت الآن وتحقَّق السيناريو التشاؤمي، وواجه الاتفاق الأخير صعوبة في تمريره داخل الكونغرس، فسيكون ذلك دليلاً إضافياً لا يدحض على أنّها بلد في حالة تدهور مستمرّ، وإذا عطست أميركا سيصاب العالم بعدها بالزكام، فلن ينهار الاقتصاد الأميركي بمفرده، وستتردَّد أصداء أزمة الديون الأميركية في جميع أنحاء العالم.