بينما تبحث بريطانيا عن تقارب سياسي وشراكة تجارية ضخمة مع الولايات المتحدة في عهد الرئيس جوزيف بايدن، قال محللون إن الإدارة الأميركية الجديدة ربما تطالب بريطانيا بتلبية ثلاثة شروط، وهي الالتزام بمعايير النظافة البيئية حسب ما نصت عليه اتفاقية باريس للتغير المناخي، وفتح حدودها أمام الهجرة والمحافظة على حجم العون الخارجي.
وربما لن تجد بريطانيا صعوبة في تلبية الشرطين الخاصين بالعون الخارجي وتقليل انبعاث الغازات الملوثة للجو، ولكن الشرط الثالث الخاص بالهجرة ربما سيكون عقبة من الصعب على حزب المحافظين تجاوزها.
ويرى الخبير البريطاني، بن هاريس كوييني، في تعليقات نقلتها أمس الأحد صحيفة "ديلي أكسبريس" البريطانية، أن قضية الهجرة ستظل خطاً أحمر أمام الحكومة البريطانية وأن أي تنازل عن ضوابط الهجرة سيغضبان التيار المؤيد لبريكست في بريطانيا.
ويذكر أن قضية الهجرة كانت واحدة من أهم القضايا التي أدت إلى استفتاء بريكست، وما تلاه من عملية انفصال تام عن دول الاتحاد الأوروبي فيما عرف باتفاقية "بريكست" التي نظمت العلاقة الجديدة في التجارة والخدمات والهجرة التي دخلت حيز التنفيذ في بداية العام الجاري.
وكان رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، قد تحدث هاتفياً يوم السبت مع الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، وأكد بايدن أنه يرغب في تعزيز العلاقة الخاصة مع بريطانيا دون تناول قضايا التجارة والاقتصاد، حسب ما ذكرت صحيفة "فاينانشيال تايمز".
ويعد توقيع اتفاقية الشراكة التجارية مع أميركا حجر الزاوية في بناء الفضاء التجاري الجديد لبريطانيا المستقلة عن قوانين الاتحاد الأوروبي. فالاتفاق سيقوي من مركز بريطانيا التجاري والمالي، كما سيعزز موقع لندن بين المراكز المالية العالمية، بسبب الثقل الكبير للمصارف الاستثمارية الأميركية التي تتواجد حالياً في لندن، وربما سيعوض جزءاً من الخدمات المالية التي خسرتها لندن في أوروبا، بعد توقيع اتفاقية بريكست وهروب أصول تقدر بنحو 1.2 ترليون دولار منذ الاستفتاء إلى مراكز أوروبية وعالمية، وذلك وفقاً لبيانات شركة المحاسبة القانونية "إرنست آند يونغ".
ولم تشمل اتفاقية بريكست الخدمات المالية، وهو ما أدى إلى الإضرار بالبورصة البريطانية التي فقدت تداول أسهم بعض الشركات المهمة، كما خسرت مصارف حي المال البريطاني "جواز المرور التجاري" الذي كان يسمح لها بالتعامل في أدوات المال الأوروبية. ولكن يلاحظ أن بريطانيا نجحت حتى الآن في توقيع اتفاقات تجارية مع 70 دولة تغطي أكثر 900 مليار جنيه استرليني من حجم تجارتها الخارجية، كان آخرها تلك التي وقعتها مع كندا.
وتتفاوض بريطانيا حالياً لتوقيع اتفاق تجاري مع الهند وربما تؤجل أية مفاوضات مع الصين إلى حين إبرام الاتفاق التجاري الأميركي.
وهذا يعني أن بريطانيا حققت تقدماً كبيراً في بناء الفضاء التجاري الجديد حتى قبل الانفصال الفعلي عن الكتلة الأوروبية. ولكن تبقى أمام بريطانيا اتفاقية الشراكة التجارية الرئيسية مع الولايات المتحدة التي تعد ثاني أهم شريك تجاري لها بعد دول الكتلة الأوروبية.
وتغطي اتفاقية بريكست وحدها نحو 660 مليار جنيه استرليني من حجم التجارة البريطانية الخارجية، إذ بلغ حجم الصادرات البريطانية مع دول الاتحاد الأوروبي خلال العام 2019، نحو 294 مليار جنيه إسترليني، أي ما يعادل 43% من إجمالي حجم صادراتها، بينما تستورد بريطانيا من دول الاتحاد الأوروبي نحو 374 مليار جنيه استرليني، أي ما يعادل 52% من إجمالي حجم وارداتها، وذلك حسب بيانات البرلمان البريطاني في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
وكانت الحكومة البريطانية تعول في توقيع اتفاقية شراكة تجارية واسعة ومريحة، على العلاقة الخاصة التي تربطها مع واشنطن منذ الحرب العالمية الثانية، والصداقة الخاصة التي كانت تربط بين رئيس الوزراء بوريس جونسون والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ولكن خسارة ترامب وصعود جوزيف بايدن للحكم فرض واقعا جديداً على محادثات الشراكة التجارية وربما تأجيلها حتى العام المقبل. وكانت التوقعات البريطانية قبل نتائج الانتخابات الأميركية، تفيد بأن الجانبين سيتمكنان من توقيع الاتفاقية في الربيع المقبل، وذلك حسب التصريحات التي أدلت بها وزيرة التجارة الخارجية البريطانية، ليز تروس.
ويرى محللون أن إدارة الرئيس جوزيف بايدن ليست راضية عن خروج بريطانيا من عضوية الكتلة الأوروبية خلافاً لإدارة ترامب التي كانت تشجع خروج بريطانيا على ذلك.
في هذا الشأن يقول السفير البريطاني السابق لدى الولايات المتحدة، كيم داروش: كانت واشنطن تستفيد من النفوذ البريطاني داخل دول الاتحاد الأوروبي عبر تأثيرها في القرارات الأوروبية ولكن بعد بريكست قل هذا التأثير.
ويضيف داروش في تصريحات نقلتها صحيفة "وول ستريت جورنال": "لا شك أننا خسرنا عاملاً مهماً من العوامل التي تربط علاقتنا بالولايات المتحدة بخروجنا من عضوية الاتحاد الأوروبي".
وأشار إلى أن واشنطن كانت تتشاور أسبوعياً مع لندن حول القضايا التي تهمها في أوروبا، بدءاً من التشريعات الجديدة المقترحة في بروكسل وحتى علاقة أوروبا مع روسيا.
ولكن في ذات الشأن، يرى محللون أن خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي، لا يعني بالضرورة نهاية للعلاقات الخاصة بين بريطانيا والولايات المتحدة، أو أن عهد التقارب بين واشنطن ولندن قد انتهى، إذ إن التعاون والتنسيق في مجالات الأمن والدفاع والدور الذي ستعلبه بريطانيا في تشكيل التحالف الرأسمالي الليبرالي العالمي الجديد ضد بكين، سيظل مهماً لدى واشنطن.
وخلافاً لاستراتيجية الرئيس السابق دونالد ترامب التي كانت تعمل على تفكيك "النظام العالمي" القائم وإنشاء تحالف "أنغلو ساكسوني" جديد لبناء العالم على أسس جديدة، فإن استراتيجية الرئيس الحالي جو بايدن تقوم على محاصرة الصين عبر شراكة بين الدول الرأسمالية والديمقراطيات الغربية والآسيوية.
وبالتالي فإن دور بريطانيا في بناء هذا التحالف سيكون مهماً لنجاح استراتيجية بايدن الجديدة في تشكيل النظام العالمي وتقليل الدور الصيني فيه.
في هذا الصدد أكد فريق الجديد لإدارة الرئيس بايدن أنه يدعم بريطانيا قوية، ولكن ربما لن تمنح بريطانيا أولوية على باقي الدول الأوروبية مثلما كان في السابق.
ويرث الرئيس جو بايدن خطة الشراكة التجارية المقترحة بين بريطانيا وأميركا التي اكتملت معظم عناصرها وقطعت شوطاً طويلاً، وأصبحت شبه جاهزة للتوقيع حسب التصريحات التي صدرت في كل من لندن وواشنطن قبل ظهور نتيجة الانتخابات الرئاسية.
وعلى الرغم من أن أولويات بايدن الداخلية خلال العام الجاري ربما لن تترك له فرصة لمباحاثات التجارة الخارجية، يرى محللون أن اتفاقية الشراكة التجارية البريطانية الأميركية ستولد وإن تم تأجيلها للعام المقبل.
وربما سيكون على رئيس الوزراء البريطاني منح أيرلندا الشمالية أهمية في سياساته الاقتصادية، إذ يعطي الرئيس جو بايدن أهمية خاصة لأيرلندا في علاقاته مع بريطانيا.
وفي سبتمبر/ أيلول الماضي، قال بايدن في تغريدة له على تويتر: "لن نسمح لاتفاقية الجمعة العظيمة (اتفاقية نهاية الحرب الأهلية الأيرلندية) أن تُصبح ضحية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي". وحذر من أن إبرام أي اتفاق تجاري مستقبلي بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة سيكون مشروطاً باحترام هذه الاتفاقية ومنع عودة الحدود الصعبة".
وربما تكون ترتيبات التجارة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي الأخيرة، ضمن اتفاقية بريكست الأخيرة مرضية إلى حد ما للجانب الأميركي لأنها ضمنت الحقوق لأيرلندا الشمالية.
وتتجه بريطانيا لفتح الاستثمارات العالمية في أيرلندا الشمالية عبر إنشاء مجموعة من مناطق التجارة الحرة خلال العام الجاري وتحديداً بعد فترة انتهاء جائحة كورونا.