استمع إلى الملخص
- شهدت مصر زيادات في أسعار السلع والخدمات، مما أثار غضب المواطنين، حيث استجابت الحكومة لطلبات صندوق النقد بزيادة الأعباء المعيشية وتخفيض الدعم، مما أدى إلى تفاقم عجز الموازنة وأزمة الدين الحكومي.
- أصبح لصندوق النقد تأثير كبير على القرارات الاقتصادية في مصر، مع خلافات حول بعض البنود مثل بيع شركات عسكرية، واحتمالية تخفيف بعض الشروط المتفق عليها.
قبل أيام خرجت تصريحات عن كبار المسؤولين في مصر، مضمونها أن "الدولة قد تضطر إلى إعادة تقييم برنامجها مع صندوق النقد الدولي، البالغة قيمته 8 مليارات دولار، إذا لم تأخذ المؤسسات الدولية باعتبارها التحديات الإقليمية غير العادية التي تواجهها البلاد"، والناتجة أساساً عن تداعيات حرب غزة، وزيادة المخاطر الجيوسياسية في المنطقة، التي أدت إلى خسارة مصر مليارات الدولارات، منها 6 مليارات دولار نصيب قناة السويس وحدها، إضافة إلى خسائر أخرى في قطاعات أخرى، مثل السياحة والاستثمارات المباشرة.
التصريحات جاءت عقب انتشار حالة غضب شديدة ومكتومة بين المصريين، بسبب قفزات أسعار السلع والخدمات التي لا تتوقف أسبوعاً واحداً، وآخرها زيادة سعر الوقود من بنزين وسولار قبل أيام، بما يتراوح بين 11% و17%، وللمرة الثالثة خلال العام الجاري، وهو ما لم يحدث في أي دولة من قبل. وتأكيد كبار المسؤولين أن الزيادات في المشتقات البترولية مستمرة حتى نهاية العام المقبل، وهو أمر مستفز للمواطن، إذ إن الدول تتردد عشرات المرات قبل أن تقرر زيادة سعر الوقود، نظراً لحساسية تلك الزيادة لدى مواطنيها وتأثيرات الزيادة الخطيرة في كلفة المعيشة وأسعار السلع والنقل والمواصلات والقطاعات الاقتصادية من زراعة وصناعة وتجارة.
وخلال الفترة الماضية، شهدت الدولة قفزات في أسعار السلع الغذائية والمواصلات العامة وغيرها. ورُفع سعر الخبز المدعوم لأول مرة منذ 30 سنة في يونيو/ حزيران الماضي، مع خفض الدعم على السلع التموينية، والتزام رسمي بتطبيق نظام مرن لسعر صرف العملات الأجنبية، وتعديل قانون ضريبة القيمة المضافة بحلول نوفمبر/تشرين الثاني لتقليل الإعفاءات الضريبية الممنوحة لنحو 19 سلعة وخدمة.
التصريحات الخارجة من مصر تشي بأن خلافاً نشب بين الحكومة المصرية وصندوق النقد، وهو ما يمكن رصده في تأجيل الصندوق إرسال بعثته الفنية إلى القاهرة لإجراء مراجعة جديدة لاتفاقية القرض
التصريحات الخارجة من مصر قبل أيام تشي بأن خلافاً نشب بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي، وهو ما يمكن رصده في تأجيل صندوق النقد إرسال بعثته الفنية إلى القاهرة لإجراء مراجعة جديدة لاتفاقية القرض المبرمة مع الحكومة، حيث كان من المقرر أن يجري الصندوق تلك المراجعة في نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي، لكنه أرجأ الزيارة إلى بداية أكتوبر الجاري، ثم إلى موعد لم يتحدد بعد، وهو ما نتج عنه تأجيل حصول مصر على شريحة جديدة من القرض المتفق عليه، قيمتها 1.2 مليار دولار.
في رأيي، أن هذا الخلاف لا يكمن في وجود وجهات نظر متباينة حول تطبيق بنود اتفاقية القرض المتفق عليها مع صندوق النقد في مارس/آذار 2024، فالحكومة استجابت لمعظم طلباته، خصوصاً المتعلقة بزيادة الأعباء المعيشية على المصريين، حيث شهدت الأسواق قفزة في سعر الخبز المدعوم بلغت 300%، وزيادات كبيرة في فواتير الكهرباء والمياه والصرف الصحي، وزيادات قياسية في الضرائب والرسوم الحكومية، ورُفع سعر الوقود من بنزين وسولار ومازوت بنسبة تجاوزت 1000% منذ نهاية 2016، وزيادات أخرى في تكلفة المواصلات العامة، بما فيها مترو الأنفاق والقطارات، وجرت زيادات على سعر أنبوبة غاز الطهي، وأسعار الأدوية وغيرها من السلع المعيشية.
وعوّمت الحكومة الجنيه المصري خمس مرات في غضون سنوات لا تتجاوز الثماني، منها ثلاثة تخفيضات منذ بداية عام 2022، وأجرت زيادات في سعر الفائدة بمعدلات قياسية بهدف مكافحة التضخم وضمان تدفق الأموال الساخنة، وهو ما عمّق عجز الموازنة العامة وأزمة الدين الحكومي، مع مواصلة التوسع في الاقتراض الخارجي، وأقدمت الحكومة على سداد الجزء الأكبر من مستحقات شركات النفط والغاز الأجنبية، وتمرير قوانين تتيح خصخصة التعليم والصحة. وهي كلها مطالب وشروط فرضها الصندوق مقابل منح الحكومة قرضاً بقيمة 8 مليارات دولار، وآخر طارئاً بقيمة 1.2 مليار دولار.
ببساطة، بات صندوق النقد صاحب القول الفصل في العديد من القرارات الاقتصادية التي تطبقها الحكومة، سواء تعلقت بأوجه صرف الدعم والمخصصات العامة وإعادة هيكلتها أو بالنفقات العامة، ولا مجال هنا للحديث عن خلافات في العناوين العامة المتفق عليها، بما فيها احتمالية إجراء زيادات جديدة في سعر الخبز المدعوم، وإلغاء الدعم السلعي نهائياً وتحويله إلى دعم نقدي، والموافقة كذلك على إعادة رسملة البنك المركزي المصري، ونشر عمليات التدقيق السنوية على الحسابات المالية التي يصدرها الجهاز المركزي للمحاسبات، وتسريع برنامج بيع أصول الدولة والتخارج من البنوك والشركات.
لا أظن تراجع الصندوق عن تطبيق الشروط المتفق عليها في مارس 2024، ومنها خروج المؤسسات السيادية من المشهد الاقتصادي، أو على الأقل تقليص الوجود فيه، لصالح القطاع الخاص
ومن هنا يجب البحث عن خلافات أخرى تبرر تلويح مصر بإعادة النظر في الاتفاق المبرم مع الصندوق، فقصة مراعاة الحكومة مصالح المصريين وآلامهم المعيشية غير مقنعة لرجل الشارع، فالمواطن يشكو ويصرخ منذ أكتوبر 2016، والمواطن آخر ما يهمّ تلك الحكومة التي تطبق أبشع ما في أنظمة الرأسمالية المتوحشة وسياسات "نيوليبرالية" غير مسبوقة دهست الجميع، بمن فيهم الطبقة الوسطى التي انهارت بسرعة، والحكومة مستعدة للسير في هذا الطريق الشائك والصعب حتى آخره.
وهنا يجب البحث عن نقاط اختلاف أخرى للخلافات الجديدة، قد تتعلق بالبنود المرتبطة ببيع أصول الدولة، خصوصاً في الجزئية المتعلقة بتخارج المؤسسات السيادية من المشهد الاقتصادي، وبيع عدد من الشركات التابعة لها.
لا أتحدث هنا عن صفقات رأس الحكمة ورأس جميلة ورأس بناس وغيرها من الرؤوس الاستثمارية الاستراتيجية التي تضعها الحكومة على طريق البيع لمستثمرين عرب وأجانب، فبعضها مُرِّرت صفقة بيعه، كما جرى مع الإمارات، والآخر في الطريق، ولا أتحدث عن بيع أصول استراتيجية، مثل المطارات والموانئ، فهذا أمر معلن من الحكومة، لكن أتحدث عن إصرار الصندوق على بيع شركات مدنية تابعة للمؤسسة العسكرية، ومنها "الوطنية للبترول" والمياه المعدنية "صافي وغيرها" وغيرها.
لقد كتبت مراراً أن الجري وراء قروض صندوق النقد الدولي تهديد حقيقي للأمن القومي الاقتصادي المصري، وأن الجري وراء شروطه وإملاءاته لا ينتج عنه سوى الخراب والسراب وتلال من أعباء الديون الخارجية التي قفزت من 55 مليار دولار في عام 2016 إلى 168 مليار دولار في نهاية عام 2023، وإدخال البلاد ومواطنيها وأسواقها في حائط سد، لذا فإن الحديث الأخير عن إعادة تقييم العلاقة والتجربة مع الصندوق ليس للاستهلاك المحلي وتهدئة الشارع الغاضب، كما يظن البعض، بل لأسباب أخرى من المتوقع أن تكشف الأيام المقبلة عنها من قبل الصندوق.
في النهاية، قد يخفف الصندوق من بعض شروطه المتفق عليها، مثل التخلي عن زيادات أسعار الوقود الفصلية مقابل "التزام حازم" من الحكومة المصرية برفع الأسعار إلى "مستويات استرداد التكلفة" بحلول نهاية عام 2025. لكن لا أظن تراجع الصندوق عن تطبيق الشروط المتفق عليها في مارس 2024، ومنها خروج المؤسسات السيادية من المشهد الاقتصادي، أو على الأقل تقليص الوجود فيه، لصالح القطاع الخاص.