أخيراً، وبعد سنوات طويلة من الإنكار، اعترف تقرير أصدره صندوق النقد الدولي في إبريل/ نيسان الجاري، تحت عنوان "آفاق الاقتصاد العالمي: تعافٍ متأرجح"، وتحديداً فصله الثالث المعنون بـ"النزول إلى أرض الواقع: كيف نعالج تصاعد الدين العام"، وبشكل أكثر تحديداً في الصفحة رقم 73، بأنّ الإجراءات المتمثِّلة في التقشُّف والزيادات الضريبية وخفض الإنفاق العام لم تؤدِّ إلى خفض نسبة الدين العام من إجمالي الناتج المحلي في عيِّنة مؤلَّفة من 17 اقتصاداً متقدِّماً خلال الفترة الممتدة من 1978 إلى 2020، و14 اقتصاداً ناشئاً خلال الفترة الممتدة من 1989 إلى 2020.
وهذا ما يشكِّل تناقضاً صارخاً مع استمرار صندوق النقد الدولي بفرض وصفته الموحَّدة التي تشترط الالتزام بسياسات التقشُّف، التي تعيق بدورها النمو الاقتصادي، ولم تؤتِ أكلها وفقاً لمؤلِّفي الفصل الثالث من هذا التقرير المثير للجدل.
توصَّل كُتَّاب الفصل الثالث من تقرير صندوق النقد الدولي إلى نتيجة في غاية الأهمية، مفادها أنّ ضبط أوضاع المالية العامة من خلال رفع الضرائب وتقليل الإنفاق العام من المرجَّح أن يقلِّل الديون في اقتصادٍ متنامٍ في ظلّ وجود ظروف مالية مؤاتية، وإصلاحات هيكلية تعزِّز النمو، وأطر مؤسسية قويّة.
ولكن نظراً لكون مثل هذه الظروف غير متوفِّرة دائماً، يساهم التقشُّف في إعاقة نمو الناتج المحلي الإجمالي ونادراً ما يكون له تأثير إيجابي يذكر في البلدان المثقلة بالديون. كما خرج الكتّاب بعدّة توصيات مهمّة، من بينها التوقُّف عن دفع خدمة الديون أثناء المفاوضات لكونها خطوة ضرورية لضمان نجاح إعادة هيكلة الديون في خفض نسب الديون.
تضمَّن هذا التقرير جرأة لم نعهدها في تقارير صندوق النقد الدولي من قبل، فقد أزاح الستار عن الكثير من الحقائق التي لا تزال هذه المؤسَّسة الدولية تتجاهلها لحدّ الساعة عند تعاملها مع الدول التي أنهكتها الديون ويلاحقها شبح الإفلاس، حيث يتعمَّد صندوق النقد الدولي مطالبة البلدان المثقلة بالديون بضرورة تعويم العملة ورفع أسعار الفائدة وخفض الدعم الحكومي وزيادة الضرائب، ضارباً عرض الحائط بتوصيات العديد من الدراسات العلمية والبحثية، ومن بينها توصيات هذا التقرير الذي نسلِّط عليه الضوء، والذي أكَّد أنّ جهود إعادة هيكلة الديون كانت أكثر نجاحاً عند اتِّباع مسار استعادة النمو وتجنُّب كل ما يؤدِّي إلى التدهور الاقتصادي.
وكأنّ كتّاب هذا التقرير يعترفون بطريقة غير مباشرة بأخطاء صندوق النقد الدولي الماضية في أحد أهمّ تقاريره الفصلية، وبناءً على ذلك.
أسئلة كثيرة تطرح نفسها هنا، هل صنّاع القرار في صندوق النقد الدولي على دراية بهذا التقرير الذي يعدّ نقطة تحوُّل حاسمة في منشورات وقسم أبحاث الصندوق أم فضّلوا تجاهله؟ وهل يعدّ هذا التقرير نقطة بداية لكشف المستور وإحقاق الحقّ؟ وهل سينعكس ذلك على أنشطة إقراض هذه المؤسَّسة الدولية التي لطالما تجبَّرت وطغت على الدول التي تتخبَّط في أزمة المديونية؟.
من المبكِّر جدّاً التفاؤل بانقلاب الموازين في مؤسَّسة اعتادت تصفية الحسابات على مائداتها المستديرة التي تجمع بين الدائنين والمدينين، وتتعمَّد التأخُّر في نجدة الدول التي تستغيث بها وتخلط أوراق المصالح الجيوسياسية بأوراق القروض.
لم يعد خافياً البؤس العمدي الذي أحدثته سياسات صندوق النقد الدولي في الدول المتعثِّرة مالياً التي لجأت إليه، فقد كان بإمكان الصندوق تجنيب تلك الدول ويلات ما وصلت إليه أوضاعها المالية، وما جرَّته أزماتها الخانقة، من خلال تقديم الدعم المستمرّ والإشراف على السير الحسن لاستخدام القروض في تدوير عجلات الإنتاج وتعزيز النمو الاقتصادي والتعفُّف عن فرض الشروط المجحفة.
فإخراج الدول من براثن الديون لم يكن يوماً إحدى أولويات صندوق النقد الدولي، الذي لطالما وضع نصب عينيه خطط الخصخصة الضارّة لا النافعة التي تمهِّد الطريق للسيطرة والنهب، حيث يبدأ أوّلاً بإغراق الدول المديونة في مزيد من الديون من خلال منحها قروضاً جديدة لتمويل خدمة الديون القديمة، ثمَّ يتطوَّر الأمر بهذه الدول إلى خصخصة أهمّ مؤسساتها الحيوية والاستراتيجية التي لم تكن أصلاً سبباً في نشوء الأزمة واستفحالها، ليصل بها الحال فاقدة للسيادة والاستقلالية وفي مواجهة انتفاضات شعبية واسعة، نتيجة عدم القدرة على تحمُّل جرعة التقشُّف الزائدة المفروضة وفقاً لإملاءات الصندوق، لينتهي بها المطاف في دوامة من الانسداد السياسي وعدم الاستقرار وسنوات من الضياع.
من بين الدول التي تنتظر في طابور قروض صندوق النقد الدولي نجد باكستان، سريلانكا، بنغلادش، مصر، غانا، تونس، لبنان، حيث تفعل هذه المؤسَّسة ما بوسعها لفرض أقسى الشروط مستغلَّة كونها المؤسَّسة الدولية الوحيدة التي لديها المواردالكفيلة بمساعدة أيّ بلد يواجه ضائقة اقتصادية شديدة، والغريب في الأمر عدم تردُّد السياسيين في الانصياع لمطالب مؤسَّسة تهيمن عليها حكومات أجنبية وصولية وخبيثة النوايا.
جدير بالذكر أنّ صندوق النقد الدولي انتقائي في تقديم قروضه ومساعداته، فعلى سبيل المثال هو متساهل في تقديم القروض إلى الدول التي لها علاقة صداقة واستدانة مع الصين، حيث يعمل صندوق النقد الدولي على تعديل شروطه مع الدول التي يمكنها الوصول إلى تمويل صيني غير مشروط، وفقاً لما جاء في مقال نشرته صحيفة واشنطن بوست تحت عنوان "لا يمكن لسريلانكا الاعتماد على الصين لحلّ مشاكل ديونها"، وتتكرَّر ظاهرة مماثلة في البنك الدولي وفقاً لما كشفت عنه دراسة تحت عنوان: "هل يتحدَّى المانحون "الجدد" شرطية البنك الدولي؟".
خلاصة القول، لقد أثبت باحثو صندوق النقد الدولي فشل أهمّ سياساته وعدم جدوى وصفاته، وهي خطوة بلا شكّ في الاتِّجاه الصحيح، لكنّها غير كافية وحدها، حيث ينبغي على هذه المؤسَّسة الدولية أن تتخلَّى عن فرض الإجراءات التي تحوِّل أوضاع الدول التي تطرق بابها من سيئ إلى أسوأ، وأن تعتزل أسلوب الاستغلال والاستعباد الذي مارسته خلال عقود.