صندوق النقد الدولي في فوهة الانتقادات

20 يناير 2023
مقر صندوق النقد الدولي في العاصمة الأميركية واشنطن (Getty)
+ الخط -

يواجه صندوق النقد الدولي الآن، أكثر من أي وقت مضى، أزمة شرعية ومصداقية، فقد تآكلت الثقة في هذه المؤسسة المالية الدولية وأصبحت ملاءمة سياساتها محلّ شك واضح من قبل وسائل الإعلام والعديد من الأبحاث الأكاديمية وصنّاع القرار في الدول التي أوقعتها الظروف في فخّ المديونية الخارجية.

حتى الصندوق ذاته لا يستطيع أن يثبت أن الانتقادات اللاذعة الموجَّهة إليه في غير محلِّها وفي غير موضعها، فبدلاً من التعافي والخروج من دوامة الديون وتحقيق النمو، عانت العديد من البلدان المتلقية لقروض الصندوق من الركود، أو ما هو أسوأ من ذلك، ولا تزال إلى الآن محاصرة بالديون وخدمة الديون.

تقترن قروض صندوق النقد الدولي بشروط مجحفة وقاسية ينبغي على الدول المقترضة قبولها بحذافيرها، كما تتَّسم سياسات الصندوق الإقراضية بعدم الديمقراطية وعدم التشاركية، وتتراوح أساليبه بين الإقناع وبين ليّ الذراع. ولا تقتصر خطورة قروض الصندوق على عدم ملاءمتها من الناحية الاقتصادية فحسب، بل تصل إلى حد اللامعقول في انتهاك سيادة الدول وتحويل حياة مواطنيها البسطاء إلى جحيم لا يطاق، فنجد في العديد من ضحايا الصندوق كالمكسيك، فنزويلا، البرازيل، الأرجنتين، تايلاند والصومال دليلاً لا يُدحض على آثار الصندوق المدمرة التي لا تزول مع مرور الوقت، كالانهيار المالي المؤلم والانكماش الاقتصادي الخطير والاضطرابات الاجتماعية والسياسية، وما إلى ذلك من تداعيات قروض الصندوق المميتة.

بداية الصندوق وحدها تبيِّن أن لا خير فيه للضعفاء، حيث تزامن تأسيس هذا الصندوق مع ولادة نظام بريتون وودز في يوليو/تموز 1944، حين تم تحديد نظام نقدي جديد تلتزم بموجبه الولايات المتحدة بتحويل الدولار إلى ذهب على أساس سعر ثابت (35 دولاراً للأونصة الواحدة من الذهب) والذي اتضح فيما بعد أنه كان مخطَطاً لإقامة إمبراطورية الدولار، وتحديداً بعد انهيار نظام بريتون وودز، نتيجة إعلان الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إغلاق نافذة الذهب في بلاده، ونهاية قابلية تحويل الدولار إلى ذهب في عام 1971، أي ما يُعرف بصدمة نيكسون "Nixon Shock"، وبعدها تولَّى صندوق النقد الدولي مهمة دعم الدولار، من خلال ممارسة الرقابة الصارمة على سياسات أسعار الصرف الخاصة بأعضائه، وأطلق صفارة بداية حقبة جديدة من الاستعمار الاقتصادي تحت ذريعة الإنقاذ المالي.

على نفس نهج الاستعمار القديم، حوصرت دول العالم الثالث بديون ضخمة عجزت عن تسديدها، وأحكم صندوق النقد الدولي قبضته على خناقها، لكونه الملاذ الأخير للدول التي تقطَّعت بها السبل، ووجدت كل الدول التي لجأت إليه ووقعت تحت رحمته نفسها أمام وصفة موحَّدة معدَّة مسبقاً، تتمثل أهم بنودها في خفض الإنفاق العام، رفع الدعم عن الوقود والغذاء، رفع الضرائب، رفع شعار شدّ الحزام ومطالبة الجميع بالتقشف، خفض قيمة العملة، الخصخصة، رفع أسعار الفائدة، تقليص الائتمان الداخلي، تنفيذ الإصلاحات التي لا يمكن تنفيذها، والانصياع لكافة مطالب الصندوق التي تصل إلى المساس بسيادة الدول المديونة له، كإلزام هذه الدول بإلغاء القيود التي تقف في وجه استحواذ الجهات الأجنبية على أصولها الاستراتيجية والحساسة، التصويت في الأمم المتحدة وفقاً للهمسات الأميركية، الترحيب بإقامة قواعد عسكرية أميركية على أراضيها، إتاحة مواردها وثرواتها وكل ممتلكاتها الاستراتيجية للاستخدام الأميركي، كما ورد في كتاب "اعترافات قاتل اقتصادي" "Confessions of an Economic Hit Man" للخبير الاقتصادي الأميركي جون بيركنز، والذي نُشر عام 2004.
دور الإنقاذ المالي الذي يتغنَّى به صندوق النقد الدولي يمكن ملاحظته حصراً في أوروبا، وتحديداً في اليونان، ويستحيل رؤيته في الدول الآسيوية والأفريقية والأميركية اللاتينية، التي تعتبرها الولايات المتحدة دولاً يجوز استعمارها ونهب ثرواتها وإفقار شعوبها، حيث لا يتردَّد الصندوق في الانقضاض على الدول التي تقع في شباكه وإجبارها على تجرُّع مرارة شروطه الصارمة للحصول على قروض تُستخدم في كثير من الأحيان لسداد أو خدمة قروض أخرى.

لكن ما يُعاب على ضحايا صندوق النقد الدولي هو استسهال سوء الإدارة، وغضّ البصر عن ممارسات الفساد، وتعمُّد خلق التضخُّم. والخطير في الأمر أن اجتماع كل هذه العناصر يؤدي إلى فتح الباب على مصراعيه للانتهازيين من كل حدب وصوب، وفي مقدمتهم صندوق النقد الدولي.

موقف
التحديثات الحية

في الواقع، تستوعب دول العالم النامي، ومنها الدول العربية تحديداً، حقيقة حيلة ومكر الولايات المتحدة، لكنها تمضي بثبات نحو طلب العون والنجدة من مؤسساتها المُسخَّرة لخدمة المصالح الأميركية أولاً وآخراً، ويعي حكام تلك الدول مدى تنوُّع سياسات الإخضاع الأميركية.

فعلى سبيل المثال، نجد أن الدول التي لا يُركعها صندوق النقد الدولي لهيمنته يتولَّى أمرها الجيش الأميركي، كما حدث في العراق وليبيا وسورية.

سياسات هذا الصندوق لم تكن يوماً اقتصادية بحتة، بل تشرَّبت الإملاءات السياسية الأميركية والغربية، وقد تدفع الدول المقترضة من الصندوق ثمناً باهظاً للغاية لقاء شطب ديونها المستحقَّة للصندوق أو حتى إعادة جدولتها. فعلى سبيل المثال، مطلوب من لبنان، وتحديداً من حزب الله، توقيع معاهدة سلام شاملة مع إسرائيل، للتأهل إلى مصاف الدول التي تستحق الحصول على قروض وشطب ديونها المستحقة للصندوق بجرّة قلم.

اللجوء إلى الاقتراض من الصندوق هو اتباع للطريق المؤدي إلى الموت، لا إلى النجاة والحياة، حيث تكاد تنعدم الأمثلة عن القروض التي منحها الصندوق لدول نامية وعادت بالنفع على شعوبها، فقد كشفت فضائح الفساد نهب السياسيين السابقين الفاسدين لأجزاء من القروض وإيداعها في بنوك غربية، بينما يحمل المواطنون أوزار تلك الديون التي يُنفِّذ لأجلها الساسة الحاليون إجراءات تقشفية موجعة.

خلاصة القول، سياسات صندوق النقد الدولي ما هي إلا أسلوب أميركي جديد للسيطرة على دول العالم الثالث ونهب كل ممتلكاتها بطريقة قانونية ورسمية. لذلك ينبغي على الدول العربية المتعثِّرة مالياً أن تجد بدائل داخلية أخرى للخروج من محنتها من دون إساءة استغلالها، وعدم اللجوء إلى الاقتراض الخارجي إلا في أضيق الحدود، والتجربة الماليزية بقيادة مهاتير محمد خير مثال على التعافي بعيداً عن وصفات الصندوق المميتة.

المساهمون