مع اشتعال التوترات بين الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان، وآخرها اجتماع رئيسة تايوان تساي إنغ وين مع رئيس مجلس النواب الأميركي كيفن مكارثي في كاليفورنيا في الخامس من إبريل/ نيسان الجاري، هناك مخاوف متزايدة من قبل محللين دوليين بشأن احتمال نشوب صراع عسكري يعقد المشهد الاقتصادي العالمي، ويلقي بتداعيات أشد وطأة من الأزمات التي يشهدها العالم نتيجة اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، خاصة أن أكبر اقتصادين في العالم يملكان الكثير من أوراق اللعب والضغط المتبادل الذي يرقي إلى حد كسر العظام، لكن هناك من يرى أن بكين قد لا تنجرف إلى تدخلات عسكرية في تايوان للرد على المناوشات الأميركية، وإنما لديها الكثير من الأرواق البديلة عن الضغط على الزناد.
وبعد مرور عام على الحرب الروسية في أوكرانيا، أضحى لدى الصين دراسات لا حصر لها حول الدروس التي يمكن أن تستخلصها من الصراع وتطبيقها حال تدخلها عسكرياً في تايوان، خاصة في ما يتعلق بتحييد الدول بعيداً عن أي محاولة استقطاب أميركية، وكذلك استخدام الضغط الاقتصادي المباشر على الأسواق الدولية، ومحاصرة تايوان عبر عمليات الحظر البحري، أو التلاعب بسلسلة التوريد التايوانية عبر عمليات التفتيش على البضائع والموانئ .
ويتمحور الخلاف الصيني مع تايوان حول أن تايوان نفسها دولة ذات سيادة، في حين ترى الصين أنها مقاطعة انفصالية ستخضع في النهاية لسيطرتها ضمن سياسة "الصين الواحدة". ورغم أن تايوان جزيرة صغيرة في بحر الصين الجنوبي، لكن موقعها الاستراتيجي وتطورها في مجال الرقائق الإلكترونية (أشباه الموصلات) يجعلان منها قطعة الأرض الأغلى في الجغرافيا السياسية في آسيا.
وتُعد تايوان واحدة من أهم أوراق النزاع الاستراتيجي الجاري بين واشنطن وبكين على تملك تقنيات أشباه الموصلات فائقة الدقة، التي تساهم في صناعة الأجيال المقبلة من الصناعات المتطورة والأسلحة الذكية وأنظمة الأمن السيبراني والسباق على الفضاء، وبالتالي صياغة النظام العالمي الجديد وتشكيله.
ولا يمكن للصين أن تنتزع زعامة العالم من الولايات المتحدة، حتى لو تفوقت عليها في حجم إجمالي الناتج المحلي، ما لم تحسم معركة الرقائق الإلكترونية. ورغم أن الأرقام العالمية تظهر أن تايوان تستحوذ على 20% من حجم تصنيع الرقائق الإلكترونية عالمياً، إلا أن هذه الأرقام لا تعكس الحقيقة الكاملة، إذ إن تايوان تستحوذ وحدها على نحو 92% من الرقائق عالية التقنية، والتي لها القدرة على تخزين حجم أكبر من البيانات في مساحة صغيرة جداً، وتعتبر الأكثر تقدماً في العالم، بفضل شركة "تي إس إم سي".
وتطمح الصين للسيطرة على هذه التقنيات المتطورة، فيما تسعى الولايات المتحدة بشتى السبل إلى محاولة حجبها عنها لإيقاف تقدمها نحو انتزاع صدارة العالم من واشنطن. وانطلقت الصين من الصفر تقريبا قبل 20 عاماً في مجال صناعة الرقائق الإلكترونية، حتى تجاوزت الولايات المتحدة التي كانت تستحوذ حينها على 37% منها، قبل أن تفقد ريادتها لصالح تايوان، التي تطالب بكين بالسيادة عليها.
ووفق أرقام عام 2022، يمتلك عدد قليل من الدول تكنولوجيا تصنيع الرقائق الإلكترونية، خاصة المتقدمة منها، وعلى رأسها تايوان وكوريا الجنوبية اللتان تستحوذان على أكثر من 20% لكل منهما، والصين 15%، والولايات المتحدة 12%، والاتحاد الأوروبي نحو 10%، بينما تصدر هولندا واليابان آلات تصنيع وصيانة الرقائق الإلكترونية.
ورغم أن أهمية تايوان التجارية للولايات المتحدة لا تقارن بأهمية الصين التجارية لها، إلا أن واشنطن لا تعبأ بخسارة بكين نظراً لأهمية تايوان تكنولوجيّاً، فحجم تجارة تايوان مع الولايات المتحدة حسب بيانات وزارة التجارة الأميركية لم يتجاوز 105.9 مليارات دولار العام الماضي، بينما تظهر الأرقام التي صدرت في فبراير/ شباط الماضي أن تجارة السلع بين الولايات المتحدة والصين سجلت رقماً قياسياً بلغ 690.6 مليار دولار، على الرغم من التوترات المستمرة بين العملاقين الاقتصاديين.
وارتفعت مشتريات الولايات المتحدة من آلات صناعة الرقائق الإلكترونية الخاصة بالحاسب الآلي من تايوان إلى حجم قياسي الشهر الماضي، فيما تعمل إدارة الرئيس جو بايدن على تعزيز قطاع أشباه الموصلات المحلي. ووفق بيانات صادرة عن وزارة المالية في تايوان يوم الخميس الماضي، شهدت صادراتها من آلات صناعة أشباه الموصلات إلى الولايات المتحدة نمواً بنسبة 42.6% في مارس/آذار مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي، مسجلة 71.3 مليون دولار، في حين هبطت هذه الصادرات إلى الصين بنسبة 33.7%، ما يمثل تراجعاً للشهر التاسع على التوالي.
إبطاء تطور الصين
وتسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها لإبطاء تطور الصين في صناعة أشباه الموصلات، ما يؤثر على صناعاتها التكنولوجية، وما يثير غضب الصين، لا سيما إزاء تايوان، التي يرى محللون أن صراع الزعامة بين واشنطن وبكين يدور على أرضها حالياً. لكن مراقبة الصين عن كثب الحرب الروسية في أوكرانيا والعقوبات الغربية الواسعة ضد موسكو، قد تمنحها دروسا كثيرة لمواجهة واشنطن وكسب المعركة.
وفي تحليل نشره يوجين تشوسوفسكي، كبير المحللين في معهد نيولاينز للدراسات السياسية والاستراتيجية في واشنطن، في مجلة فورين بوليسي الأميركية، يرى تشوسوفسكي أنه كانت هناك دراسات لا حصر لها حول الدروس التي يمكن أن تستخلصها بكين من الصراع في أوكرانيا وتطبيقها على تدخلها العسكري المحتمل في تايوان.
ويشير كبير المحللين في معهد نيولاينز للدراسات السياسية والاستراتيجية إلى أنه يمكن للصين أن تحقق أهدافها المتعلقة بتايوان بطرق أكثر دقة، سواء من خلال الضغط الاقتصادي المباشر، أو عمليات الحظر البحري، أو التلاعب بسلسلة التوريد التايوانية عبر عمليات التفتيش على البضائع والموانئ، وإعادة توجيه البضائع، مضيفا أنه "في حين أن غزواً عسكرياً صريحاً لتايوان قد تكون له تكاليف باهظة على بكين، فإن حرب روسيا في أوكرانيا أظهرت أن هذا لا يجعل بالضرورة مثل هذا العمل باهظاً".
ويقول إن الحالة الروسية أثبتت للصين أنه من المفيد وجود كوكبة من الدول التي ستكون على الأقل محايدة في حالة حدوث أي نوع من التدخل في تايوان. وهنا، أرست الصين بالفعل الكثير من الأعمال الأساسية لتواصلها الاقتصادي والدبلوماسي العالمي، الذي يتجسد في سياسة "الخروج" التي بدأتها قرب نهاية القرن الماضي، وأطلقت مبادرة الحزام والطريق في عام 2013.
وكان لمثل هذه الجهود التي تبذلها الصين بالتأكيد دوافعها الاقتصادية والسياسية الخاصة، التي لا تعد ولا تحصى، في ما وراء قضية تايوان، ولكن بكين رأت الآن من الصراع الأوكراني أنه يمكن أن تكون لها فائدة إضافية تتمثل في إبقاء العديد من البلدان على الهامش في حالة حدوث أي نوع من التدخل، وفق تشوسوفسكي، موضحا أنه حتى بين الدول الغربية، ربما تشعر بكين بالسعادة في أعقاب زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بكين، والتي كرر فيها نقاط الحديث الصينية حول اختلاف أوروبا عن أميركا.
وفي هذا السياق، كان من الملاحظ كيف عززت الصين علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية مع دول مختارة غير غربية على مدار العام الماضي. وعلى سبيل المثال، الوساطة الصينية الأخيرة للاتفاق الدبلوماسي السعودي الإيراني، الذي تم التوصل إليه في 10 مارس/آذار الماضي، والذي سبقته أشهر من انخراط بكين الدبلوماسي مع الرياض وطهران، والذي تضمن صفقات اقتصادية مع كلا البلدين. كما وسعت الصين علاقات الطاقة مع روسيا خلال العام الماضي، حيث عقد الرئيس الصيني شي جين بينغ اجتماعاً رفيع المستوى مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشهر الماضي للترويج لمثل هذه العلاقات.
وقد لا يكون من قبيل المصادفة أن مثل هذه البلدان هي مزوّد رئيسي للطاقة لتايوان، حيث تعد السعودية أكبر مُصدر للنفط إلى الجزيرة، كما أن روسيا مزود رئيسي لإمدادات الفحم والغاز الطبيعي. وأحد الإجراءات التي يمكن أن تتخذها الصين هو تعزيز علاقاتها مع موردي الطاقة هؤلاء من أجل الضغط على تايوان، التي تعتمد بشكل كبير على الواردات بنسبة 98% من إمداداتها من الطاقة (وما يرتبط بها من إنتاج أشباه الموصلات). وفي كلتا الحالتين، قد تكون بكين قادرة على الاعتماد على حياد موسكو والرياض في حالة التدخل في تايوان، أو ربما حتى تعاونهما في الجهود المبذولة لإعادة توجيه شحنات الطاقة المتجهة إلى تايوان عبر الموانئ الصينية كوسيلة لزيادة تقييد تايوان، وفق كبير المحللين في معهد نيولاينز للدراسات السياسية والاستراتيجية.
بدائل للضغط على الزناد
ويقول تشوسوفسكي إنه سواء اختارت الصين متابعة الخيار العسكري في تايوان أم لا، فإنها تأخذ صفحة من قواعد اللعبة الروسية لتنمية العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية خارج الولايات المتحدة وحلفائها، لإعداد نفسها بشكل أفضل لأي سيناريو، مضيفا أن هناك الكثير من العوامل التي قد تمنع بكين من الضغط على الزناد.
ويزداد وضع أميركا تأزماً في ظل إعداد الصين لمعركتها مع واشنطن بشأن تايوان، إذ إن أهمية الجزيرة لا تقتصر على موقعها الاستراتيجي وتصدرها صناعة الرقائق الإلكترونية عالمياً، وإنما أيضا خشية واشنطن من ترك مصير تايوان للصين ما قد يرسل إشارة سلبية إلى حلفائها في آسيا، وبالتالي خسارة نفوذها في هذه القارة.
في الأثناء، تواجه آسيا أكبر تداعيات محتملة من تصاعد التوترات الجيوسياسية، وفقاً لما نقلت وكالة بلومبيرغ الأميركية عن كريشنا سرينيفاسان، مدير إدارة آسيا والمحيط الهادئ لدى صندوق النقد الدولي. وتُعد آسيا واحدة من النقاط المضيئة للاقتصاد العالمي، إذ يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينمو اقتصاد المنطقة 4.6% في العام الحالي، بزيادة 0.3% عن توقعاته الصادرة في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، وفقاً لتقرير "آفاق الاقتصاد العالمي".
ونهاية مارس/آذار الماضي، حذر زعماء جنوب شرق آسيا في مقاطعة هاينان الصينية، نهاية مارس/آذار الماضي، من الكلفة الاقتصادية للتنافس المتزايد بين الولايات المتحدة والصين، وحثوا الجانبين على التعاون لتجنب المزيد من الانقسام الذي تتأثر به الأسواق العالمية.
وقال رئيس وزراء سنغافورة، لي هسين لونغ، إنه يتعين على الجانبين تحقيق الاستقرار في العلاقات، في حين أن أي صدام بين القوتين العظميين ستكون له عواقب وخيمة عليهما وعلى العالم. وتحاول منطقة جنوب شرق آسيا الموازنة في علاقاتها بين واشنطن وبكين، وهو دور يزداد صعوبة مع تصارع القوتين على كل شيء. وتعتمد تلك الدول على بكين كشريك اقتصادي رئيسي، لكنها تعول أيضاً على الولايات المتحدة كشريك أمني في وقت تواصل فيه الصين تنمية قوتها العسكرية.
الحيرة نفسها تواجه أوروبا، فقد حثّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أوروبا، الأسبوع الماضي، على اكتساب مزيد من الاستقلالية الاستراتيجية كوسيلة لتفادي خطر تحويل بلدان الاتحاد الأوروبي إلى دول تابعة في حالة حدوث أزمة عالمية، مثل نشوب مواجهة بين الولايات المتحدة والصين.