بعد فترة من التصعيد بين واشنطن وبكين حول مستقبل تايوان وسياسة الصين الواحدة وحظر شركات التقنية، بدأت المحادثات التجارية بين الصين والولايات المتحدة أمس الثلاثاء، حيث أجرى نائب رئيس الوزراء الصيني ليو هي اتصالاً مع وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، ناقشا خلاله ملف التجارة والتعاون الثنائي، حسب ما أفادت وزارة التجارة الصينية.
وتناولت المحادثات التعاون بشأن الاقتصاد والتجارة وشركات التقنية وحرية الأسواق. وهو ما يشير إلى نوع من التهدئة في النزاع الشرس بين العملاقين الذي يتسم بالأبعاد المتعددة وشدة التعقيد والحساسية بين قوة صاعدة تبحث عن دور عالمي وإعادة صياغة النظام العالمي، وهي الصين، وبين الولايات المتحدة التي تهيمن على الترتيبات العالمية الحالية وترغب في المحافظة على موقع القوة العظمى.
موسكو كانت تعاني في "الحرب الباردة" من التخلف التقني وتواجه أزمات مالية حادة في تمويل الإمبراطورية الشيوعية، خاصة بعد تدهور أسعار النفط إلى أقل من 10 دولارات في النصف الثاني من الثمانينيات
وبالتالي يرى خبراء أن "الحرب الباردة الجديدة" الحالية بين واشنطن وبكين تختلف كماً ونوعاً عن الحرب الباردة التي كانت قائمة بين موسكو وواشنطن منذ سنوات والتي انتهت بسقوط الإمبراطورية الشيوعية وتفكيك الاتحاد السوفييتي واستقلال دول أوروبا الشرقية، كما تختلف عن التنافس الذي جرى بين الإمبراطورية البريطانية والولايات المتحدة التي انتهت إلى الاتفاق والتحالف وهزيمة النازية الهتلرية.
ويشير خبراء إلى أن "الحرب الباردة الجديدة" بين واشنطن وبكين ذات طابع استراتيجي معقد وأبعاد متعددة تشمل صناعة المال والاقتصاد والتقنية والنفوذ الجيوسياسي العالمي إلى جانب التهديد النووي.
في هذا الشأن يرى ستيفن هينتز الرئيس التنفيذي لصندوق روكفلر العائلي في نيويورك أن هنالك صعوبات بالغة التعقيد في إدارة نزاع "الحرب الباردة الجديدة" بين واشنطن وبكين.
ويقول في تعليقات نقلتها قناة "سي أن بي سي" الأميركية إنه بينما كانت النزاعات السابقة والتنافس على زعامة النظام العالمي سهلة الإدارة إلى درجة ما بالنسبة للولايات المتحدة فإن النزاع مع الصين يبدو أكثر تعقيداً.
ولاحظ خبراء أن موسكو كانت تعاني في "الحرب الباردة" من التخلف التقني وتواجه أزمات مالية حادة في تمويل الإمبراطورية الشيوعية، خاصة بعد تدهور أسعار النفط إلى أقل من 10 دولارات في النصف الثاني من عقد الثمانينيات، بينما خرجت أميركا وأوروبا الغربية قوية اقتصادياً ومالياً وتقنياً بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945).
لكن في "الحرب الباردة" الحالية التي تواجه فيها واشنطن بكين، فإن الصين تملك اقتصاداً قوياً نما بمعدلات بلغت في المتوسط نحو 13% لفترة قاربت أكثر من عقد قبل جائحة كورونا، كما تملك شبكة تجارة عالمية قوية واحتياطات نقدية تفوق 3 تريليونات دولار، وبالتالي فإن إدارة الرئيس جو بايدن ربما تجد صعوبة في كسب "الحرب الباردة" الحالية ضد الصين رغم الأهداف المعلنة التي وضعتها، وعلى رأسها "تحالف الديمقراطيات الرأسمالية" مع أوروبا وآسيا والذي شمل أيضاً الهند واليابان وأستراليا ودول النمور الآسيوية.
يقدر المنتدى الاقتصادي العالمي أن ينمو السوق الاستهلاكي بالهند إلى 6 تريليونات دولار في عام 2030. وهذا المعدل الهائل من النمو يسيل له لعاب الشركات الأميركية
على صعيد الصراع الجيوسياسي، يلاحظ أن الولايات المتحدة تركز في صراعها مع الصين على تعزيز نفوذها في آسيا، خاصة مع الهند واليابان وأستراليا.
وتأتي أهمية الهند في هذا الصراع بسبب موقعها الاستراتيجي في آسيا، وكونها ثالث أكبر اقتصاد في القارة الآسيوية وخامس أكبر اقتصاد في العالم، إذ يقدر حجم اقتصادها بنحو 3.202 تريليونات دولار. كما أنها ثاني أضخم الاقتصادات في العالم.
ويقدر عدد السكان بالهند بنحو 1.327 مليار نسمة وحجم السوق الاستهلاكي يزداد نمواً مع تنامي حجم الطبقة الوسطى بالبلاد. وهذا العدد الضخم من المستهلكين يمنح الشركات التقنية والأميركية بديلاً مناسباً للخروج من السوق الصيني واستبداله بالسوق الهندي الذي يتوق لهذه الشركات الغربية التي كانت تتربح من الصين.
ويقدر المنتدى الاقتصادي العالمي أن ينمو السوق الاستهلاكي بالهند إلى 6 تريليونات دولار في عام 2030. وهذا المعدل الهائل من النمو يسيل له لعاب الشركات الأميركية، كما تتخوف بكين التي تتسم علاقاتها بالعداء مع الصين من مستقبل النمو الاقتصادي في الهند بعد انتقال شركات التقنية الغربية منها إلى الهند.
لكن يبدو أن أكثر النقاط الملتهبة في صراع النفوذ الجيوسياسي والاقتصادي يتركز حالياً حول تايوان التي تعد جزيرة صغيرة من حيث المساحة والحجم الاقتصادي ولكنها جزيرة استراتيجية من ناحية موقعها في بحر الصين الشرقي الذي تمر به معظم التجارة إلى حلفاء الولايات في اليابان وكوريا الجنوبية، ومن ناحية التقدم التقني والتفوق العسكري. وتطالب بكين الولايات المتحدة الاعتراف بـ"الصين الواحدة" التي تعني سيادة بكين على تايوان.
وتعتبر الحكومة الصينية بناء على استراتيجية "الصين الواحدة" أن تايوان مقاطعة تابعة لحكومة البر الصيني وذات حكم ذاتي فقط، وبالتالي يجب على واشنطن عدم الاعتراف الدبلوماسي بها كدولة مستقلة أو تسليحها.
من جانبها، تواصل واشنطن التعامل مع تايوان كدولة مستقلة وقلعة ديمقراطية يجب الدفاع عنها في وجه الحكم الأوتوقراطي الصيني. وتعد تايوان بالنسبة للاستراتيجية الأميركية في آسيا حلقة مهمة في بسط السيطرة على القارة الآسيوية، إذ إنها تمثل المفتاح الرئيسي لحركة التجارة الضخمة التي تمر إلى حلفاء استراتيجيين مثل اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة.
رغم عدد سكان تايوان لا يتعدى 23 مليون نسمة، كما أن حجم تجارتها مع الولايات المتحدة لا تتعدى 85 مليار دولار، إلا أنها تقع على أهم الممرات التجارية في العالم، وواحدة من أهم قلاع تقنية "الشرائح الإلكترونية"
وعلى الرغم من أن عدد سكان تايوان لا يتعدى 23 مليون نسمة، كما أن حجم تجارتها مع الولايات المتحدة لا تتعدى 85 مليار دولار، إلا أنها تقع على أهم الممرات التجارية في العالم، كما أنها واحدة من أهم قلاع تقنية "الشرائح الإلكترونية" في العالم.
وبالتالي يرى خبراء أن هيمنة الصين عليها تعني سيطرة الصين على صناعة أشباه المواصلات العالمية التي باتت من أهم تقنيات التفوق في الصناعة العسكرية وتقنية الذكاء الصناعي في العالم.
في هذا الشأن، يرى الخبير العسكري الأميركي المتخصص في الشؤون الدولية الدكتور جون بولتمان أن تخلي الولايات المتحدة عن تايوان وتركها للسيطرة الصينية سيعني منح بكين السيطرة على بحر الصين الشرقي، وبالتالي التهديد المباشر لليابان التي تعد من أهم حلفاء الولايات المتحدة في آسيا.
ويقول بولتمان في تحليل مشترك مع زميله ديريك آر. زيتليمان، بدورية "ذا ديبلومات" الآسيوية، إن حجم الاقتصاد التايواني البالغ 600 مليار دولار سيضيف كثيراً إلى الناتج المحلي الصيني المقدر بنحو 13.5 تريليون دولار، كما السيطرة الصينية على تايوان ستعزز الاقتصاد الصيني بما تملكه الجزيرة من تقنيات الشرائح المتقدمة والذكاء الاصطناعي.
لكن في ذات الاتجاه، يرى خبراء أن تخلي واشنطن عن تايوان التي تعد واحدة من "تحالف الديمقراطيات الرأسمالية" الذي دشنه الرئيس الأميركي جو بايدن لمحاصرة التمدد التجاري الصيني في العالم سيمنح إشارة سلبية لحلفاء واشنطن في آسيا، مفادها أن الولايات المتحدة ربما ستتخلى في المنعطفات الخطرة عن حلفائها في آسيا.
بالتالي فإن الصراع بين بكين وواشنطن على تايوان ونزاع السيطرة على آسيا يعدان من الملفات الخطرة على مستقبل العالم، ليس فقط على ناحية التنافس الاقتصادي والتجاري ولكن الأهم على مستقبل الاستقرار السياسي والأمني.
يُذكر أن "صراع الحرب الباردة" بين موسكو وواشنطن كاد يتحول إلى حرب نووية في بداية عقد الستينيات الماضية، حينما نصبت موسكو صواريخ ذرية في كوبا الواقعة على مقربة من ولاية فلوريدا الأميركية، فإن النزاع بين بكين وواشنطن على تايوان ربما يقود إلى وضع الصين لصواريخ ذرية في دولة مثل السلفادور في أميركا الجنوبية التي تعد بمثابة "الحديقة الخلفية" للولايات المتحدة.