لا يزال الفشل يحكم توصل صندوق النقد الدولي إلى اتفاقات على برامج قروض مع كل من لبنان وتونس وباكستان، وسط تساؤلات عميقة عما إذا كانت شروط الصندوق وصفة إصلاح فعلية، أم هي شروط تعجيزية لا يمكن للحكومات السير بها لعدم شعبيتها.
ومنذ مطلع العام الجاري والأنباء عن مباحثات يجريها الصندوق مع عدد من الدول بشأن القروض المفترض منحها لعدد من الدول النامية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، لم تنقطع، ليتابع العالم جولات من المباحثات بين الصندوق ومسؤولي تلك الدول حول الاجتماعات المشتركة للبحث في مسألة الإصلاحات التي يفرضها الصندوق، وبرامج الإصلاح الاقتصادي التي تتبناها تلك الدول، والتي غالبا ما تواجه اعتراضا من قبل الصندوق.
وتأتي في مقدمة الدول الساعية للحصول على قروض من صندوق النقد والبنك الدوليين تونس ولبنان وباكستان، التي تعد من أهم الدول التي شهدت جولات واجتماعات مكثفة بين مسؤولي المالية في تلك الدول، والبنك الدولي.
أبرز الجولات وأحدثها ما تشهده تونس حاليا، فقد تعثرت المحادثات بين الجانبين بشأن قرض بقيمة 1.9 مليار دولار وافق الصندوق على تقديمه لتونس في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عندما توصل الجانبان إلى اتفاق على مستوى الخبراء، لكن الرئيس التونسي قيس سعيد رفض بشكل قاطع فكرة خفض الدعم وبيع شركات مملوكة للدولة، مما أدى لتوقف المفاوضات.
وقالت الرئاسة التونسية حينها إن الرئيس سعيد أبلغ مديرة الصندوق، خلال اجتماع في باريس، أن شروط الصندوق لتقديم الدعم المالي لبلاده تهدد بإثارة اضطرابات اجتماعية في البلد، مؤكدا أن أي خفض مطلوب في الدعم، خاصة الطاقة والغذاء، يمكن أن تكون له تداعيات خطيرة.
وتبدو محادثات تونس مع صندوق النقد الدولي بشأن حزمة إنقاذ متعثرة منذ شهور، ولا توجد مؤشرات تذكر على أن الرئيس التونسي مستعد للموافقة على الخطوات اللازمة للتوصل إلى اتفاق يساعد البلاد على تجنب أزمة مالية.
وتوصلت تونس وصندوق النقد إلى اتفاق على مستوى الخبراء في أكتوبر/تشرين الأول 2022، بخصوص القرض الممدد، لكن في منتصف ديسمبر/كاموم الأول الماضي سحب المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي اتفاقه على خلفية عدم تعهد تونس بجملة الإصلاحات الاقتصادية.
وهناك العديد من الأمور التي تغيرت منذ توقيع اتفاق الخبراء، الأمر الذي يفرض إجراء تعديل أو تنقيح على الخطة الإصلاحية لتونس، واقتراح إعادة صياغة اتفاق جديد مع الصندوق، يتضمن إرجاء القيام برفع الدعم عن المحروقات، لا سيما أن الظرف العالمي الراهن في سوق الطاقة ساعد تونس نسبيا.
ويرى خبراء أن تونس بحاجة إلى مزيد من المساعدة لتجنب انهيار اقتصادي، حيث تواجه أزمة شاملة في ميزان المدفوعات، ويعاني اقتصادها من العديد من المشكلات.
وتحركت الحكومة التونسية في اتجاه إجراء العديد من الإصلاحات. ففي محور تحسين بيئة الأعمال، تعمل الحكومة حاليا على إقرار حزمة جديدة من الإجراءات من أجل تطوير مناخ الأعمال والاستثمار، خاصة عبر التقليص من الإجراءات البيروقراطية.
أما بالنسبة لمحور إصلاح الشركات العمومية، فقد صادقت الحكومة على تعديل جذري لقانون الشركات العمومية الرامي إلى مزيد من تعزيز جوانب الحوكمة وحسن التصرف في هذه الشركات.
ولحلحلة الإشكال القائم مع صندوق النقد الدولي، طالبت تونس الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية بضمانها لدى صندوق النقد الدولي على غرار ما تم مع أوكرانيا التي حصلت على قروض بقيمة 15 مليار دولار.
تونس مطالبة هذا العام بتحصيل نحو 5 مليارات دولار في شكل تمويلات وقروض لتمويل موازنتها لهذه السنة، وتوافقت على تحصيل 1.5 مليار دولار وتبقى 3.5 مليارات دولار، وبإمكان الاتحاد الأوروبي الشريك الاقتصادي الأول لتونس مساعدتها على تعبئة هذه التمويلات.
مفاوضات لبنان مع صندوق النقد.. راوح مكانك
وفي لبنان يزداد الأمر تعقيدا، فما زالت الحكومة تتفاوض مع صندوق النقد الدولي منذ 3 سنوات. وخلال تلك المدة عقدت اجتماعات عدة بين فريق التفاوض اللبناني ووفد الصندوق، دون التوصل إلى اتفاق، حيث يرى صندوق النقد أن لبنان لم يلب طلباته، ولم يقم بالإصلاحات الضرورية.
وحذر صندوق النقد من أن لبنان بحاجة إلى تحرك عاجل لتنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة، تجنبا لعواقب قد يصعب إصلاحها، وخلص خبراء الصندوق إلى الحاجة لإصلاحات لإنهاء الأزمة الشديدة التي يواجهها الاقتصاد اللبناني، وتجنب تداعياتها، خاصة على الفقراء والطبقة الوسطى.
وتعهد صندوق النقد في إبريل/نيسان 2022 بالإفراج عن قرض بقيمة 3 مليارات دولار للبنان على مدى أربع سنوات، كخطوة أولى نحو تجديد الثقة مقابل تنفيذ سلسلة من الإصلاحات التي لم تنفذ حتى الآن، وهو ما ترتب عليه تجميد القرض.
وبخلاف قروض الصندوق، يحتاج لبنان إلى دعم مالي قوي من المجتمع الدولي لتلبية الاحتياجات المالية الكبيرة جدا التي سيواجهها في السنوات المقبلة، ومن الضروري أن يحصل لبنان على دعم سياسي، لتنفيذ الإصلاحات التي اتفق عليها مع خبراء صندوق النقد في إبريل 2020.
ويعاني لبنان منذ أكثر من 3 سنوات من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، مع انهيار قيمة الليرة مقابل الدولار، وشح في الوقود والأدوية، إلى جانب تراجع حاد في قدرة المواطنين الشرائية. وفقدت الليرة أكثر من 98% من قيمتها.
باكستان تستعد لتغييرات كبيرة في موازنتها العامة
على الجانب الآخر، تجري باكستان حاليا تغييرات مهمة على موازنة السنة المالية المقبلة لتهدئة مخاوف صندوق النقد الدولي بشأن الضرائب، وهو ما أكده إسحاق دار، وزير المالية، أمام البرلمان مؤخرا، حيث قال إن حكومته تخطط لفرض ضرائب جديدة وزيادة العائدات بواقع 215 مليار روبيه (740 مليون دولار) لتصل إلى 9.4 تريليونات روبيه بعد أيام متتالية من النقاشات مع صندوق النقد الدولي، فضلا عن مساعي بلاده لخفض النفقات بواقع 85 مليار روبيه في الميزانية.
وطرحت حكومة شهباز شريف، رئيس الوزراء الباكستاني، في وقت سابق من الشهر الجاري خطة الإنفاق السنوية التي تهدف إلى تحقيق التوازن بين تعزيز النمو الاقتصادي والشروط الصارمة التي فرضها صندوق النقد الدولي لإحياء برنامج الإنقاذ الذي تبلغ قيمته 6.7 مليارات دولار.
وتتوقع باكستان الآن تأمين تمويل لا يقل عن 1.1 مليار دولار من الصندوق قبل انتهاء برنامجها الحالي في 30 يونيو الجاري.
وطرح صندوق النقد الدولي الأسبوع الماضي عدة تساؤلات بخصوص ميزانية عام 2024 التي قدمتها الحكومة الباكستانية للبرلمان الأسبوع الماضي. من جانبها، استجابت الحكومة لمخاوف صندوق النقد بشأن الميزانية بالقول إنها مستعدة لإظهار المرونة وإنها تعمل مع الصندوق للتوصل إلى حل مقبول، واعترض صندوق النقد الدولي على المقترحات معتبرا أن السياسات الضريبية في الميزانية لم توسع قاعدة العائدات.
ومن المقرر أن يصدر صندوق النقد في 30 يونيو/حزيران الجاري نتيجة المراجعة التاسعة لعمل باكستان على الآلية التي قدمها لها، ليقرر ما إذا كان سيقدم لها قرضا بقيمة 1.2 مليار دولار، أم لا.
يشار إلى أن باكستان تتفاوض مع صندوق النقد الدولي منذ نهاية يناير/كانون الثاني الماضي للإفراج عن 1.1 مليار دولار من حزمة الإنقاذ البالغة 6.5 مليارات دولار المتفق عليها عام 2019. ولفتح التمويل، خفضت الحكومة الإعانات، وألغت سقفا مصطنعا لسعر الصرف، إضافة إلى رفع أسعار الوقود.
وقد رفعت الدولة سقف ضريبة الوقود إلى 60 روبية للتر، بعد أن كان 50 روبية للتر، وهو مقياس رئيسي للإيرادات بالنسبة لصندوق النقد الدولي. كما ألغت السلطات القيود المفروضة على الواردات.
وتواجه الدولة الواقعة في جنوب آسيا أزمة مالية وتضخما قياسيا وعملة ضعفت بحوالي 30% في غضون عام وواردات احتياطيات نقد أجنبي هوت إلى حوالي شهر واحد فقط.
(قنا)