"خطة مهروسة في مائة فيلم من قبل"... عبارة يرددها بعض المصريين ساخرين من تكرار ذات الخطط الحكومية تجاه الدولار، ورغم ذلك تنجح في كل مرة. هذا "الإفيه" المنقول عن الفيلم الكوميدي "لا تراجع ولا استسلام"، تكرر في التعامل مع خطة تعويم الجنيه لثالث مرة في أقل من عام، ولرابع مرة في غضون ست سنوات.
وانخفض الجنيه أمام الدولار بنسبة تخطت الثلثين في أقل من عام، وبلغ حتى منتصف تعاملات الأربعاء الماضي نحو 32 جنيهاً للدولار، قبل أن يهبط بعدها بساعات إلى أقل بقليل من 30 جنيهاً، بتدخل صناديق خليجية عززت موقف الجنيه بشراء أسهم وسندات بالدولار لإظهار وفرته.
وحسب مراقبين، يمكن بسهولة ملاحظة الخطة القديمة المتكررة التي تعتمد على خلطة من عدة عناصر، هي كالآتي: رفع الفائدة، ثم خفض الجنيه رسمياً، بعد ارتفاع كبير لسعر الدولار بالسوق الموازي بآليات تقودها جهات وشخصيات غامضة وربما نافذة، وتتبع ذلك حالة من الارتباك في السوق السوداء، ثم شائعات بانخفاض الدولار وأنه لا يجد من يشتريه.
فجأة ترتفع الفائدة وينخفض الجنيه بشكل حاد: هبوط ثم استقرار ثم قفزة كبرى تتجاوز التوقعات وتكسر حاجز السعر بالسوق الموازي، بالتوازي مع حملة اعتقالات للمضاربين وغلق للصرافات، وفق المراقبين.
يتذكر المتعاملون بالسوق الموازي ما جرى طوال عام 2016، واختتم بأكبر تعويم حتى تاريخه، وهو شبيه بما جرى في مارس/ آذار الماضي ثم سبتمبر/ أيلول الماضيين، وأخيراً يناير/ كانون الثاني الحالي.
الحكاية من آخر فصولها
38 جنيهاً كان سعر الدولار في السوق السرية منذ شهر تقريباً، وسط شائعات بين متعاملين في السوق الموازي، تحدثوا لـ"العربي الجديد"، عن أن جهازاً حساساً يقوم بمناورة كبرى مع التجار وكبار المضاربين، كما فعل من قبل عام 2016، اعتماداً على معلومات مسبقة لديه بما ستقرره الحكومة لاحقاً.
استفاد هذا الجهاز من تلك المعلومات بتحقيق أرباح عبر ذات الآلية التي ينتهجها التجار والمضاربون، ثم قرر في لحظة ما حاسمة، توجيه ضربة لهم تعجزهم عن التلاعب عند صدور تلك القرارات بالتعويم.
هذا السيناريو جرى بالضبط عام 2016 باستدراج كبار تجار العملة والمضاربين، بغرض التربح من ورائهم ثم مباغتتهم باعتقالات بالجملة، بعد تتبعهم وكشف خيوط الربط بينهم. وحسب مصادر، تعتمد الخطة المعتادة في البداية على نشر شائعات مكثفة بوصول الدولار إلى أرقام غير مسبوقة خلال أيام، في المرة الأخيرة قالت الشائعات إن الدولار سيتجاوز سقف الأربعين جنيهاً، وتعززت الشائعات بالقيام بشراء مكثف للدولار من السوق، ما جعل الطلب عليه مرتفعاً.
ظل الارتفاع يتغذى بالشائعات مع القيام بالشراء المكثف، حتى ندر الدولار، وبلغ مستوى كاد أن يلامس حاجز الأربعين جنيهاً، حينها تقرر بيع حصيلة الشراء السابقة، ومع حالة العطش بالسوق الموازي، بيعت كميات ضخمة حقق الجهاز من ورائها أرباحاً بمليارات الجنيهات، في ما سمته مصادر من المستوردين تحدثت لـ"العربي الجديد" عملية "ركوب السوق السرية".
مع كثافة عمليات البيع والشراء، اتضحت للجهاز خريطة المتعاملين بالسوق، سواء من كبار التجار أو المضاربين، وهنا انطلق الجزء الثاني من الخطة بتتبعهم وملاحقتهم والقبض عليهم وتحريز ما بحوزتهم من كميات قدرت أحياناً بعشرات الملايين من الدولارات، إلى حد أن أحدهم اعتقل وبحوزته مائتا مليون دولار، ما بات معه خبر القبض على تاجر عملة خبراً اعتيادياً يُنشر في مواقع الإنترنت يومياً.
وزاد الارتباك في السوق السري بسريان شائعة بوجود دولارات مزورة بالسوق، يصعب اكتشافها، نظراً لأنها "إيرانية" أو "لبنانية" التزييف، بدعوى أن إيران تزيفها بشكل متقن وتبيعها من طريق حزب الله في لبنان بسعر أقل من الدولار الرسمي، لتحقيق ربح من ناحية، ولضرب العملة الأميركية من ناحية أخرى.
نجحت تلك الأخبار حول العملات المزيفة في لجم التعاملات بالسوق الموازي إلى حد ما، مع تزايد خشية صغار المتعاملين من الوقوع في فخ الدولارات المزورة، ولا سيما أن كثيراً من صغار المتعاملين يقتنون الدولار بغرض حيازته لأمد بعيد ريثما يرتفع سعره رسمياً، ما يجعلهم ساعتها غير قادرين على إرجاع المزور لأصحابه بعد مرور كل هذا الوقت.
نجحت الخطة مجدداً، في ما يبدو، كما بينته جولة سريعة على مجموعات بيع وشراء الدولار على الفيسبوك، لتكشف أن المعروض أكثر من المطلوب، بسبب استمرار العمل بقرارات حكومية لتحجيم طلب المستوردين للدولار، منها عدم قبول البنوك لدولارات غير معروف مصدرها، فضلاً عن استمرار وقف العمل بالاعتمادات المستندية، ووقف تصدير الذهب، الذي كان باباً خلفياً لقيام المستوردين بالدفع من خلاله للموردين بالخارج.
وأضافت الحكومة إلى ذلك قرارات أخرى صبت في خانة كبح جماح ارتفاع الدولار، وأضرت بالمقابل بعملاء للبنوك، ومنها قرار خفض حد السحب من بطاقات المشتريات بالخارج.
عبد الملاك، هو اسم مستعار لتاجر ذهب، تحدث لـ"العربي الجديد"، مشيراً إلى أنه يعرف كثيرين اشتروا الدولارات بسعر 36 جنيهاً أملاً في بيعه بأربعين، وحينما هبط لأقل من 35 جنيهاً، ظلوا يحتفظون به، ولا يزالون، مع ارتفاعه رسمياً في البنوك، كل من يعرفهم اشتروا بسعر فوق الثلاثين جنيهاً وهم على يقين بأن الارتفاع قادم كما حدث، فلم يكن أحد يتوقع أن ينخفض الجنيه لهذا الحد أبداً، فما المانع من انخفاض جديد؟
الصاغة وتجار الذهب أكثر الفئات المعنية بلعبة الدولار، والمتهمة كذلك باستغلالها. فسعر الذهب مرتبط ببورصات عالمية، وسعره محلياً مقوَّم بالدولار، وارتفاع سعر غرام الذهب يعني ارتفاع الدولار. لذلك، ارتبطت سمعته بالسوق الموازية.
يرى عبد الملاك أن تجار الذهب مظلومون بتلك الاتهامات "المجحفة"، فهم يبيعون بالداخل ويشترون بالعملة المحلية، ويمكن أن يبيعوا اليوم كميات ضخمة من الذهب، ليفاجَأوا بانخفاض العملة، لتكون حصيلة ما باعوه دون قيمتها أمس.
أما المضاربون فهم، برأيه، أصحاب المكسب الدائم، حتى إن خسروا مؤقتاً، يمكنهم التعويض بمكاسب أكبر لاحقاً، وخاصة أنهم يشاركون في إشاعة انخفاض وارتفاع الدولار بحسب اتجاهات البيع أو الشراء.
ونجحت الخطة المستنسخة في خفض السعر مجدداً إلى ما يقارب السعر الذي هبط إليه الجنيه رسمياً في البنوك، غير أن متعاملين لا يزالون يشككون في واقعية ذلك السعر اعتماداً على فكرة مفادها أنه "ما دام من يطلب الدولار لا يجده، لذلك تبقى الأزمة، وستظل هناك حاجة للسوق السرية لتوفير الدولار بسعر أعلى من البنوك بالطبع".
سماسرة الخارج
لعبة المضاربة على الدولار عابرة للحدود، تؤثر بسعر الداخل وتتأثر به، فسماسرة العملة الصعبة بالخارج يحققون منافع مزدوجة للمصريين بالخارج والمستوردين بالداخل معاً، حسب مصريين الخارج، اضطروا إلى اعتماد قنوات غير رسمية لتحويلاتهم بعيداً عن المصارف الرسمية، تجنباً لسعر الصرف الرسمي الضئيل -وقتها- مقابل سعر صرف عالٍ بالسوق الموازي.
في هذه العملية الطويلة المعقدة، يقوم مصريون بالخارج بإيداع أموالهم في حسابات بالخارج لسماسرة التحويلات، مقابل أن يتسلمها ذووهم في مصر بالجنيه في منازلهم عبر مندوب توصيل بسعر التحويل بالسوق الموازي، وتجري الأمور بالتفاوض وفق السعر المتذبذب والمتغير من سمسار لآخر.
هؤلاء السماسرة الذين ساعدوا المصريين بالخارج على تحويل أموالهم بمقابل أكبر من سعر التحويل الرسمي، يقومون بمهمة أخرى على الجانب الآخر، وهي دفع هذه الدولارات للموردين الأجانب المتعاملين مع مستوردين مصريين عاجزين عن الحصول على الدولار من السوق المحلي. بدأت هذه اللعبة منذ ارتفاع الفارق بين السعرين الرسمي والموازي منذ منتصف عام 2016، وفيما كان الدولار يدور حول الجنيهات السبعة وقتها، كان الدولار بنحو 11 جنيهاً في السوق الموازية.
يقول ناصر -وهو موظف سابق في إحدى الصرافات التي أُغلِقَت ضمن عشرات الصرافات على مدى السنوات الماضية- إن الصرافات نفسها كانت تحاول اجتذاب المتعاملين بأسعار تنافسية، مشيراً في حديثه لـ"العربي الجديد" إلى أن حائز الدولار كان يتنقل بين أكثر من صرافة قبل أن يستقر على سعر نهائي يبيع به، و"كانت الصرافات قناة السوق الموازية، تحت بصر الحكومة وسمعها قبل أن تنتقل إلى قنوات غير مرئية لأجهزة الدولة" حسب ناصر.
وجاء ختام عام 2016 ليرتفع معه سعر الدولار بالسوق السرية إلى نحو 13 جنيهاً، فيما ظل سعره ثابتاً بالسوق الرسمية.
وكما تكرر مرتين خلال النصف الثاني من العام الحالي، من "ركوب للسوق الموازي" جرى الأمر نفسه خلال النصف الثاني من عام 2016، حيث جرت مضاربات بالجملة وبشكل يشي بوجود قوة ما منظمة نافذة وذكية وراء الارتفاع المدفوع بشراء مكثف وشائعات قوية بمزيد من الارتفاع، ثم البيع فجأة لتربح تلك الجهات من السعر الكبير.
قفز الدولار وقتها إلى نحو 14 جنيهاً في السوق الموازي، بينما كان سعره رسمياً نحو 7 جنيهات، وفجأة أُعلِن تعويم كبير للجنيه، هبط سعره الرسمي أمام الدولار إلى أقل من عشرين جنيها بقليل. وقال متابعون وقتها إن الاستفادة كانت رسمية ومعلنة هذه المرة، إذ باعت البنوك للمستوردين وطالبي الدولار بسعر مرتفع، ثم هبط السعر تدريجاً على مدى سنوات، ليصل إلى مستويات يستقر عليها ثم يهبط مجدداً، ومن 18 جنيهاً للدولار إلى 17، ثم 16، حتى استقر أخيراً عند 15 دولاراً ونصف حتى سبتمبر/ أيلول الماضي.
مواعيد استحقاق الديون فرصة للتربح
ثمة ملاحظة أخرى جديرة بالتأمل، يشير إليها مراقبون، وهي أن مواعيد استحقاق سداد ديون مصر الخارجية، تتزامن مع رفع للجنيه أمام الدولار بالسوق المحلي الرسمي.
يقدم مراقبون تفسيراً محتملاً لذلك يعتمد على فكرة أن مؤسسات ما، هي أكبر مضارب في السوق الموازي، لتستفيد الحكومة من فارق السعرين، فهي تحصل على الدولار بسعر مرتفع حين الحصول على قرض، لتبيعه للمستوردين بهذا السعر المرتفع، ثم حين يحين موعد سداد القرض، تخفض سعر الدولار لتجمعه من السوق بسعر منخفض ثم ترفعه مجدداً لتسدده بسعر أفضل، وهكذا تصل مكاسبها في المليون دولار الواحد إلى نحو مليوني جنيه مثلاً.
يبرهن هؤلاء على صحة تفسيرهم بأن مسألة الانخفاض والارتفاع لا تتأثر بعوامل العرض والطلب، فحينما يتوافر الدولار بفعل قرض جديد، يفترض أن ينخفض سعر الدولار، وهو ما لا يحدث عقب الحصول على القرض، وحينما تُقبل الدولة على جمع الدولارات لسداد دين أو خدمات ديون، ينخفض سعر الدولار، خلاف ما يفترض حدوثه عند الإقبال على جمعه بكميات كبيرة.
من الملاحظ أيضاً في تلك الفترة أن الدولار بالسوق الموازية لم يكن يزيد عن البنوك إلا بفارق ضئيل لا يتجاوز جنيهاً أو اثنين. إزاء تلك الضبابية في ما جرى بالسوق الموازي، وما فعلته الحكومة استثماراً للتعويم المدار في ما يحقق فوائد لها، ستلتزم مصر مستقبلاً أمام صندوق النقد الدولي بـ"الشفافية"، عبر نشر البنك المركزي تقارير نصف سنوية عن الاستقرار المالي باللغتين العربية والإنكليزية، وضمان إصدار جميع التعليمات والتوجيهات للبنوك من خلال قنوات إخطار خطية رسمية، كما جاء في بيان لصندوق النقد أخيراً.
ورأى الخبير الاقتصادي ممدوح الولي، أن البنك المركزي المصري يحاول بعدد من الإجراءات أن يسارع للتصدي للسوق السوداء قبل شهر رمضان المقبل، حرصاً على استقرار الأسعار خلاله -بعدما زادت كثيراً مؤخراًـ حرصاً على السلام الاجتماعي.
لكن الأمر، بحسب الولي، بات صعباً أمام المركزي لتحقيق هدفه لقلة الأرصدة الدولارية لديه، بل ووجود عجز بلغ 8.5 مليارات دولار حتى نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وتقييد صندوق النقد الدولي له في استخدام الاحتياطي من العملات الأجنبية للدفاع عن سعر الصرف الارتفاع المتتالي لسعر الدولار أمام الجنيه المصري ومنذ بداية العام الحالي يتم الأمر وفقاً للاتفاق مع صندوق النقد الدولي لتحقيق سعر الصرف المرن حسب العرض والطلب.
جاء ختام عام 2016 ليرتفع معه سعر الدولار بالسوق السرية إلى نحو 13 جنيهاً، فيما ظل سعره ثابتاً بالسوق الرسمية
ويسعى البنك المركزي للاقتراب من السعر بالسوق السوداء حتى يستطيع السيطرة على سعر الصرف والعودة إلى وجود سعر واحد للصرف كما كان الحال قبل مارس/ آذار الماضي، وفق حديث الولي لـ"العربي الجديد"، مضيفاً أن وجود سعرين للصرف يعرقل عودة استثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومي رغم زيادة سعر الفائدة، ما انعكس على أذون وسندات الخزانة التي تخطى عائدها حالياً نسبة 20%.
وكذلك يعطل وجود السوق السوداء عودة جانب من تحويلات المصريين بالخارج إلى المنافذ الرسمية، وكذلك تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر، ويربك وجود سعرين للصرف الأسواق المحلية ويضفي قدراً من الضبابية وعدم وضوح الرؤية لدى المستثمر المحلي، حسب الولي.
وفسر الخبير الاقتصادي الارتباك الذي جرى في سعر الصرف الرسمي نهاية الأسبوع الماضي بارتفاع ثم تراجع السعر يوم الأربعاء بعد تخطيه لسعر 32 جنيهاً للدولار، بتدفق مشتريات أجنبية لأدوات دين محلي أسهمت في زيادة المعروض الدولاري لدى البنوك، ما مكنها من بيع الدولار، في محاولة لإرباك المتعاملين بالسوق السوداء، وهو ما حدث بالفعل خلال اليوم.
ورأى الولي أن الأمر يحتاج إلى استمرار ذلك الإرباك لعدة أسابيع وربما شهور، حتى يمكن تحجيم السوق السوداء التي تلبي احتياجاً فعلياً للمستوردين والمتعاملين، لا تلبيه البنوك حالياً.
وجرى تعديل قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد رقم 88 لسنة 2003 الخاص بتنظيم عمليات النقد الأجنبي، للحد من عمليات الاتجار في العملة وتغليظ العقوبة على كل من تسول له نفسه ممارسة تلك النشاطات، التي تؤثر سلباً في الاقتصاد الوطني، وتضمن تعديل المادة الـ126 من القانون المشار إليه، أن يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تتجاوز ثلاث سنوات، وبغرامة لا تقل عن مليون جنيه ولا تتجاوز خمسة ملايين جنيه، كل من يخالف أياً من أحكام المواد (111 و113 و114 و117) من القانون رقم 88 لسنة 2003 الخاص بتنظيم عمليات النقد الأجنبي.
وأُضيفت مادة جديدة إلى قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد رقم 88 لسنة 2003، برقم 126 مكرراً للعقوبات تختص بتغليظ العقوبة على نشاط العملات الأجنبية خارج القنوات الشرعية.