لم تُبق الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي يمر بها السودان منفذاً رسمياً لخروج الأسواق منها، ما جعل الكثير من التجار وأصحاب المشروعات الاستثمارية يوقفون أنشطتهم بسبب الركود المتواصل، في حين بحث آخرون عن منافذ جديدة عبر الأبواب الخلفية لتسويق بضائعهم ومستلزماتهم لمسايرة الحياة اليومية، ومنها ظاهرة بيع "كسر البضائع" من أجل الحصول على عملات أجنبية وجني أرباح سريعة.
ويعمد بعض التجار الذين يمتلكون سيولة ضخمة خارج المظلة المصرفية والضريبية إلى شراء سلع من الأسواق المحلية بأسعار أعلى بكثير من قيمتها الحقيقية ثم يقومون بتصديرها للخارج والاحتفاظ بعائداتها من العملات الصعبة في حسابات خارجية خوفا من حالة الضبابية الاقتصادية الحالية في البلاد، في حين يلجأ آخرون لتسييل بضائع وسلع حصلوا عليها عن طريق المرابحات المصرفية المشروطة بسلع محددة أو عن طريق الشيكات الآجلة، وهو ما يطلق عليه أيضاً كسر البضائع.
وأكد اقتصاديون أن ظاهرة كسر البضائع تحدث في الحالتين اختلالا كبيرا في النظام المالي والاقتصادي في البلاد، إذ تؤدي إلى هروب السيولة من جهة وزيادة التضخم وحالات الإفلاس من جهة أخرى، مشيرين إلى ضرورة معالجة سريعة لمشكلة السيولة الهاربة من النظام المصرفي، التي تقدر بنحو 800 تريليون جنيه سوداني، أي نحو 80 بالمئة من إجمالي الكتلة النقدية في البلاد (الدولار = نحو 577 جنيها).
ويحذر الاقتصادي السوداني محمد توفيق من خطورة تلك المعاملات (أسواق الكسر) على الاقتصاد السوداني، الذي يعاني أصلا مشكلات هيكلية عميقة، ويؤكد وجود فئتين من الجمهور تعمل في هذا المجال إحداهما تسيطر على الكتلة النقدية المتداولة خارج النظام المصرفي، والثانية تضم المستفيدين من المرابحات والقروض المصرفية.
ويقول توفيق: تسعى بعض الجهات إلى تحويل أموالها السائلة المتداولة خارج النظام المصرفي مجهولة المصدر إلى سلع تصديرية، مثل الحبوب الزيتية والمنتجات الزراعية الأخرى والماشية والذهب، من خلال شرائها من الأسواق المحلية بأسعار أعلى بكثير من أسعارها الحقيقية، ثم تصديرها إلى الأسواق الخارجية، بهدف تحويل أموالهم إلى عملات حرة للاحتفاظ بها في الخارج.
ويشير إلى أن آخرين يستفيدون من الثغرات الكبيرة في النظام المصرفي وآلية المرابحات المقومة بالسلع، ويعملون على تسييل البضائع التي يحصلون عليها عبرها بأسعار أقل واستخدامها في أنشطة سريعة العائد، وهو ما يزيد من حجم الانهيارات التي يعانيها الجنيه السوداني، في حين يلجأ البعض لتحويلها إلى عملات حرة والاحتفاظ بها على أمل حدوث المزيد من الانهيار للجنيه، وبالتالي تتآكل القروض والمرابحات التي حصلوا عليها، ما يؤدى إلى الاختلال الكبير الذي يعانيه القطاع المصرفي حاليا.
ومن جانبه، يقول المختص في الشأن الاقتصادي عبد الله إسماعيل إن معظم الأنشطة التي ظهرت حديثا في الاقتصاد السوداني تندرج تحت مسمي غسل الأموال التي انتشرت بلا رقابة في الآونة الأخيرة.
يحذر الاقتصادي السوداني محمد توفيق من خطورة تلك المعاملات (أسواق الكسر) على الاقتصاد السوداني، الذي يعاني أصلا مشكلات هيكلية عميقة
ويطالب بتفعيل القوانين المتعلقة بالأنشطة المصرفية وأنشطة غسل الأموال بشكل عام، وإجراء إصلاحات جوهرية عاجلة في النظام المصرفي، إضافة إلى وضع سياسات مالية فاعلة تمكن البنك المركزي من الرقابة على الجهاز المصرفي بشكل أفضل مما هو عليه حاليا، وتحفيز الودائع وضبط عمليات الإقراض المصرفي، ويرى أن ظاهرة البيع والشراء بالكسر تفاقم من أزمات الاقتصاد السوداني، وتربك الأسواق وتضر كثيرا بالمستهلك العادي بدرجة الضرر نفسها التي تلحقها بالاقتصاد القومي.
أما عضو الغرفة التجارية محمد بابكر فيقول إن نسبة البيع بالكسر ارتفعت وسط التجار وأدت إلى تكبدهم خسائر فادحة قادت كثيرين منهم إلى السجون بعد أحكام صدرت بحقهم، مضيفاً أن الغرفة لا تملك إحصائية رسمية بالتجار المتعسرين الموجودين في السجون، وعزا أسباب بيع الكسر إلى ركود الأسواق وانخفاض القوى الشرائية مقابل ارتفاع سعر الدولار، وأضاف أن هذه الأيام هي أيام موسم زراعي وعادة ما ترتفع فيه نسبة الكساد ما يدخل التجار في إشكالات مالية، ويرى أن المشكلة ليست بالجديدة ويمكن معالجتها، وهم الآن بصدد دراستها للوصول إلى حلول نهائية.