يوم التاسع والعشرين من شهر يناير/ كانون الثاني الماضي أمرت محكمة في هونغ كونغ شركة "إيفرغراند" (Evergrande) العقارية بالتصفية بسبب عجزها عن إعادة هيكلة ديونها المستحقة عليها والمقدرة قيمتها بحوالي 300 مليار دولار. وكان للشركة تاريخ من التراجع بدأ في العام 2021 ولكنه أدى إلى إفلاسها بعد سنتين من المحاولات لإنقاذ نفسها وإعادة جدولة ديونها ولكن دون طائل.
وجاء هذا الحدث الجلل، كما تقول الصحافة الغربية، تعبيراً عن التراجع الذي يعاني منه الاقتصاد الصيني بسبب زيادة إنفاق الصينيين على الاستهلاك وشرائهم المسبق للشقق، وهي مجرد مخططات على الورق، والسبب الآخر هو المبالغة في الإنفاق على البنى التحتية ومشاريعها الفخمة من طرق وجسور وسكك حديد ومشاريع كهرباء وأنْفاق وجسور معلقة وغيرها من الأمور.
ويقدر كثير من المواقع أن إنفاق الصين على الاستثمار في قطاعي البناء والبنى التحتية بلغ ما بين 20-30% من مجموع الناتج المحلي الإجمالي والذي قدر عام 2023 بنحو 20 تريليون دولار. ولذلك بدأ يثور السؤال لدى كثير من دور البحث الأميركية وغيرها: "هل سيؤدي انهيار شركة إيفرغراند الصينية إلى هبوط كبير كالذي حصل عام 2008 عندما انهارت شركة ليمان براذرز الأميركية العملاقة بسبب مبالغاتها في الاستثمار في سوق العقار؟".
لكن غالبية الباحثين ودور الدراسات أكدوا أن ذلك لن يحدث لأسباب واضحة: فمجموع ديون شركة إيفرغراند بلغ 300 مليار دولار عام 2023، بينما بلغت خسائر شركة "الإخوة ليمان" عام 2008 أو قبل ما يقارب خمس عشرة سنة ستمائة مليار دولار.
والسبب الثاني المهم هو أن خسائر شركة "إيفرغراند" هي لشركة تطوير وحصلت في السوق الفعلي، أما خسائر شركة ليمان براذرز فقد كانت في السوق المالية، حيث جرَّتْ معها كثيراً من البنوك وشركات الاستثمار المالية الأخرى، والتي أقنعت إدارة الرئيس باراك أوباما بتخصيص 800 مليار دولار لإنقاذ البنوك والشركات المالية المتعثرة. ولكن الحقيقة التي لا تقبل الجدل هي أن أحد أغنى المستثمرين في الصين والمدير التنفيذي لشركة "إيفرغراند" المدعو Hua Ka Yan أو Hu Jiajin، أفلس وذهب أدراج الرياح.
ويراقب الباحثون ما يجري من تطورات داخل الاقتصاد المصري. ونحن نعلم أن البنك المركزي المصري زاد أخيراً أسعار الفائدة على الجنيه بمقدار نقطتين مئويتين. وتجري الحكومة المصرية مفاوضات مع صندوق النقد الدولي لزيادة قيمة القرض الحالي البالغ 3 مليارات دولار إلى 6 مليارات وربما أكثر.
وساهم ذلك في تخفيض التراجع على سعر صرف الجنيه المصري في السوق غير الرسمية. ومن الصعب التأكد من قيمة سعر الصرف غير الرسمي، ولكنه حسب الإشاعات متذبذب بقدر كبير، ويراوح سعره بين (62 - 70) جنيهاً للدولار في السوق غير الرسمية، في حين يبلغ 30.85 جنيها في البنوك.
ويعزو المحللون هذا التراجع إلى ارتفاع نسبة الدين العام إلى أكثر من 95% من الناتج المحلي الإجمالي بسعر الصرف الرسمي، أو 125% بمعدل سعر السوق غير الرسمية في الوقت الحالي. وآخرون يعزون الفرق إلى أن كبر القطاع العام قد تسبب في دفع القطاع الخاص بعيداً عن الأرصدة بالعملة الأجنبية المتاحة، ما دفعه للبحث عن الدولار خارج القطاع المصرفي.
والخوف هنا هو أن استمرار التقلب في سعر صرف الجنيه سيغوي كثيراً من المصريين بـ"دولرَة" مدخراتهم ومخزوناتهم من الجنيهات والأصول، وكذلك الأفراد والعاملون في الخارج. والسبب أن الجنيه المصري بات يساوي أقل من سنت ونصف السنت الأميركي، أي بالكاد يساوي كلفة طباعته.
ورغم أن مصر حققت نمواً ملحوظاً بلغ نحو 4% في العام 2023 بسبب زيادة الدخل بشكل ملحوظ من الصادرات الزراعية، وعائدات قناة السويس، وحوالات العاملين في الخارج، إلا أن حرب غزة، والعمليات العسكرية في البحر الأحمر أدت إلى تراجع تلك المداخيل في العام 2024، وهو ما دفع البنك الدولي إلى إعادة النظر في معدل النمو الاقتصادي إلى حدود تعلو قليلاً عن 3%.
ولكن الذي لفت نظري هو حجم الإنفاق في مصر على قطاع الإنشاءات بشقيه المباني والبنى التحتية، والذي بلغ خلال عام 2022 ما قدره 16.14 مليار دولار، أو ما يساوي 498 مليار جنيه مصري بأسعار صرف هذا العام، بينما بلغ حجم الاستثمارات الإنشائية في مشروعات ما زالت قيد التخطيط في ذلك العام حوالي 425 مليار دولار، أي ما يساوي 110% من الناتج المحلي الإجمالي للعام نفسه 2022. وهذه أرقام يمكن مقارنتها بالأرقام التي أنفقتها الصين على قطاع الإنشاءات في العام، والتي قدرت بحوالي 20-30% من الناتج المحلي الإجمالي الصيني للعام 2023.
إذن، فمصر الآن اقتصادياً أمام خيارات صعبة، وأذكر أن نقاشاً دار بين مسؤولين أردنيين ومصريين قبل سنوات حين كان سعر صرف الجنيه مقابل الدولار حوالي 10 جنيهات للدولار قبل أن تقوم مصر بتعويم الجنيه، ولكن بعض الوزراء المصريين الحاضرين للجلسة لم يقبلوا ذلك لأن معدلات النمو في مصر كانت مرتفعة، وأن تعويم الجنيه ربما يزيد من حدة معدلات التضخم، فيفرض على الحكومة مزيداً من الإنفاق على دعم السلع والتحصين الاجتماعي.
أما صندوق النقد الدولي فيقول إن على مصر اتباع السياسات والإجراءات التي تحول دون انهيار الجنيه (crash) ويؤدي إلى هبوط آمن. وهذا يعني بلا شك الهبوط التدريجي الذي يؤدي إلى المراجحة بين سعر الصرف في السوق الموازية وسعر الصرف الرسمي.
ومصر تواجه خيارين الآن، وهو ما يذكرني بالأوضاع في تركيا عام 1980 حين هوى سعر الليرة التركية إلى حد اضطرت معه الحكومة إلى طباعة عملة جديدة اختزلت بموجبها ثلاثة أصفار من بعض فئات العملة الورقية، وإلى التخفيف من الإنفاق الاجتماعي، وفتح الباب أمام القطاع الخاص وتحويل المبالغ المتاحة كلها إلى استثمارات في السلع والخدمات القابلة للتصدير.
وأذكر أنني التقيت عام 1980 في مطار إسطنبول القديم (أتاتورك) بالراحل تورغوت أوزال (Turgot Uzal)، الذي شرح لي نظريته، وفوجئت بعدها بعامين بأنه أصبح نائباً لرئيس الوزراء في حكومة الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال كنعان إيفريم عام 1980. ولكن أوزال اصطدم برفض الوزراء لأفكاره الداعية إلى عدم الإنفاق على الرعاية الاجتماعية بل على الاستثمار الإنتاجي خشية من عودة الفتنة للبلاد.
ولكنه نجح في انتخابات 1984 وصار رئيساً للوزراء ونفذ خطته. وصارت تركيا دولة ناجحة اقتصادياً. ولما صار رئيساً للجمهورية عزز ذلك التوجه.
مصر عليها أن تختار الخيار التركي وأن تكتفي بالمشروعات البنيوية بإكمال ما بدئ به، وبأسلوب متدرج حتى لا تحدث مزيداً من الإرهاق المالي الذي يؤدي إلى مزيد من الفجوة في الدخل والثروة، وبالنسبة للثروة، فإن أغنى 10% في مصر يملكون 70% من ثروتها، حسب إحصاءات العام 2017، ولربما يصل الرقم الآن إلى حدود 75% على أقل تقدير، بينما يملك 90% من الشعب أقل من ربع الثروة فيها.
وبالنسبة للدخل، فإن توزيعه في مصر كان جيداً حتى العام 2019 ثم بدأ في التغير بعد ذلك. ولكن مؤشرات البنك الدولي تقول إنه بدأ يميل للهبوط، بمعنى أن الفقراء يزدادون فقراً والأغنياء غنى. ولكن من الواضح أن توزيع الثروة في مصر يعطي صورة أكثر قتامة من توزيع الدخل، ولعل السبب يعود إلى أن حوالي 50% من الدخل المتأتي في مصر يكتسب في السوق غير الرسمية، أو غير المسجلة والتي تقع عملياتها بعيداً عن أعين الجهات الرقابية في مصر سواء كانت وزارة العمل، أو مديريات الضرائب أو أعين وزارت الصناعة والتجارة والاستثمار.
المبالغة في الاستثمار في العقار تخلق في الدول نمواً غير متوازن. ولذلك، بات من الضروري أن تفكر الدول العربية المقبلة في الاستثمار بالعقار والإنشاءات بشكل كبير في خلق سوق ثانوية للعقارات أو ما يسمى بـ"Secondary Mortgage Market" وتسنيد أو Securitization لأدوات الدين العقارية.
والمقترح الثاني هو أن أسواق العقارات والإنشاءات، كما قال لي مرة الراحل ميلتون فريدمان، أستاذ الاقتصاد وصاحب المدرسة النيوكلاسيكية في الاقتصاد والفائز بجائزة نوبل، وأنا أتحدث إليه في المؤتمر الاقتصادي في جنوبي الولايات المتحدة عام 1974: "تذكر يا ابني أن لا شيء في المؤشرات الاقتصادية يصعد ويبقى صاعداً، ولا شيء يهبط ويبقى هابطاً، وبخاصة العقار". ولذلك أرى أن تقوم الدول بإنشاء صندوق لتثبيت أسعار العقار "Price Stabilization Fund" في فترات الصعود، لتستخدم أمواله عند الهبوط منعاً لانهيار السوق، وجعل هبوطه هبوطاً آمناً.