- تعزيز الاستثمارات في قطاع التعدين وسلاسل توريد المعادن الحيوية يأتي ضمن استراتيجيات أوسع للتحول الاقتصادي، مع التركيز على تأمين موقع في صناعة الطاقة الخضراء المتنامية.
- التوترات الجيوسياسية، خصوصًا بين الصين والولايات المتحدة، تبرز أهمية المعادن الاستراتيجية وتدفع دول الخليج لتأمين شراكات تعزز قدراتها التنافسية وتسهم في استقلالها الاقتصادي والتكنولوجي.
وسط التحول العالمي المتسارع نحو التوسع في استخدام الطاقة النظيفة، والضغوط الدولية لخفض التسخين الحراري وتفادي الكوارث البيئية التي تسببت في حدوث فيضانات بعدد من دول الخليج، تتجه دول النفط العربية الثرية نحو مصادر أخرى للدخل غير النفط تدعم مستقبل نموها الاقتصادي. وحسب تقرير بالمركز العالمي لسياسات الطاقة بجامعة كولومبيا الأميركية، يبحث كبار اللاعبين في المنطقة عن الاستثمار في معادن "الطاقة الخضراء" الصديقة للبيئة.
ورغم أن النفط لا يزال شريان الحياة للعديد من اقتصادات دول الخليج والشرق الأوسط، لكن التحول السريع نحو الاستغناء عن استخدام وقود السيارات من المنتجات البترولية إلى البطاريات والشحن الكهربائي جعل بعض أكبر اللاعبين في منطقة الخليج يضعون أنظارهم الآن على قطاع الطاقة المتجددة المزدهر ويتسابقون للاستثمار بالمعادن الحيوية في العديد من دول العالم. وحسب تقرير مركز الطاقة الأميركي، باتت معادن مثل الليثيوم والكوبالت والأتربة النادرة تعمل على تشغيل تقنيات الطاقة النظيفة وبطاريات السيارات الكهربائية في العالم.
ومع احتلال هذه الموارد مركز الصدارة في التحول إلى الطاقة النظيفة، تعمل البلدان الغنية بالنفط مثل السعودية وقطر والإمارات على زيادة الاستثمار في سلاسل توريد المعادن المهمة في محاولة لتنويع محافظها الاقتصادية وإنشاء اقتصاد عالمي يتملك حصة في "صناعة الخضراء" المتنامية.
في هذا الشأن، قال أحمد مهدي، العضو المنتدب في شركة "رينيسانس إنيرجي" للطاقة والزميل الزائر في مركز جامعة كولومبيا لسياسة الطاقة العالمية: "الأمر لا يتعلق باستبدال حجر الأساس لمحرك الاقتصاد الخليجي عبر الابتعاد عن النفط إلى المعادن وإنما يتعلق أكثر بالتأكد من حصولهم على مقعد على الطاولة في تحول الطاقة، خاصة بالنظر إلى مدى الشحن الجيوسياسي لهذه الصناعة"، وذلك نقلا عن تقرير معهد سياسات الطاقة صدر يوم 21 مارس الماضي.
وقد ألقت التوترات الجيوسياسية المتصاعدة بين بكين وواشنطن وحلفائها، ضوءًا جديدًا على أهمية هذه المعادن والدول التي تتمتع بنفوذ كبير على إمداداتها وإنتاجها وحصتها في الأسواق الدولية. وتهيمن الصين، على وجه الخصوص، على معالجة العديد من هذه الموارد، الأمر الذي أدى إلى تفاقم المخاوف بشأن نقاط الضعف الاستراتيجية لواشنطن وتحفيزها للجهود الرامية إلى تأمين سلاسل التوريد البديلة.
معروف أن الصين أكبر مستورد للنفط في العالم وتستورد معظم إمداداتها البترولية من دول الخليج وفي المقدمة السعودية. واستثمرت الصين التي تعاني من التلوث البيئي الكثيف خلال السنوات الأخيرة في الطاقة المتجددة، خاصة في الطاقة النووية. ويتوقع مراقبون أن تلعب المعادن الاستراتيجية دوراً رئيسياً في التنافس الشرس بين أميركا وتكتل "بكين ـ موسكو" على تشكيل" النظام العالمي" الجديد وربما تثير العديد من الحروب في أفريقيا وأميركا اللاتينية.
وتتشكل المعادن الاستراتيجية من "المعادن الحرجة والنادرة" التي تدخل في التقنيات عالية الدقة، وعلى رأسها الشرائح الإلكترونية فائقة السرعة، وتضم المعادن الاستراتيجية إلى جانب الليثيوم، الذهب واليورانيوم الذي يدخل في توليد الطاقة النظيفة، في وقت يبحث فيه أيضا تكتل "بكين - موسكو" عن إنشاء "العملة البديلة" للدولار. وفي الشرق الأوسط، حيث تتزايد المخاوف من الإفراط في الاعتماد على عائدات الوقود الأحفوري، وترى العديد من الدول النفطية أن تكون بعيدة عن هذا السباق الجديد على طاقة المستقبل.
في هذا الشأن، قالت الزميلة بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، غريسلين باسكاران في تعليقات نقلها مركز كولومبيا لسياسات الطاقة: "تظهر السعودية والإمارات كلاعبين كبيرين في مجال المعادن الحيوية". وتضيف أن "هذه الدول المعتمدة على النفط تدرك أن التحول إلى الطاقة النظيفة والسيارات الكهربائية سيقلل من الطلب العالمي على النفط". وتضيف "لذلك إذا كانت السعودية ستنمو اقتصاديًا، فلن يقتصر الأمر على الاستمرار في نموذج النفط فقط".
وتتابع "السعودية تشهد تحولاً. ومن خلال هذا التحول تريد أن تصبح قوة اقتصادية. ولكي تكون قوة صناعية، تحتاج إلى المعادن. لبناء المشاريع... لذلك، فإن التعدين في المملكة هو الخطوة الأولى، وجلب المعادن من الخارج هو الخطوة الثانية، والخطوة الثالثة هي بناء السعودية كمركز للصناعة". ولتنفيذ هذه الرؤية، تقول باسكاران "ركزت الرياض على تأمين شراكات جديدة، بما في ذلك من خلال توقيع مذكرات تفاهم تركز على التعدين مع جمهورية الكونغو الديمقراطية ومصر وروسيا والولايات المتحدة والمغرب".
وكانت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية قد ذكرت في تقرير العام الماضي، أن واشنطن والرياض تجريان محادثات لشراء حصص تعدين في عدة دول أفريقية. كما تدرس السعودية أيضًا الاستثمار في البرازيل وأرسلت وفداً إلى الأرجنتين لمناقشة ثروة الليثيوم في ذلك البلد. من جانبها تكثف الإمارات أيضًا جهودها للحصول على حصة في قطاع "معادن الطاقة" الجديدة، بما في ذلك عن طريق توقيع شراكة تعدين بقيمة 1.9 مليار دولار في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وتأمين اتفاقيات جديدة في زامبيا الغنية بالنحاس.
وتفيد التقارير بأن الإمارات العربية المتحدة وأستراليا تجريان أيضًا محادثات بشأن اتفاقية تجارة حرة يمكن أن تشهد استثمار أبو ظبي في قطاع المعادن الحيوي في كانبيرا. وحتى في قطر التي تعتمد على تجارة الغاز المسال الذي من المتوقع أن يتم الاعتماد عليه حتى عقد الخمسينيات في توليد الطاقة، اتخذت الدوحة خطواتها الأولية من خلال توقيع اتفاقيات التعدين مع نيجيريا، والتأكيد على أهمية التعاون في مجال المعادن الحيوية، وذلك وفقاً لما ذكره المركز العالمي لسياسات الطاقة بجامعة كولومبيا.
وقالت الباحثة باسكاران، إن أبوظبي والرياض تمتلكان وسائل تمويل طموحاتهما. وأضافت: "كل من هذين البلدين لديه الكثير من رأس المال لاستثماره في هذا القطاع". وتتابع، " لذلك، في الوقت الذي تتراجع فيه معظم الشركات الغربية عن أعمال الحفر والتنقيب في معادن الطاقة المتجددة بسبب انخفاض أسعار الليثيوم والنيكل والكوبالت، فإن هذه الدول الشرق أوسطية تزيد من استثماراتها".
من جانبه، يتوقع صندوق النقد الدولي أن يحقق إنتاج النفط والغاز في الشرق الأوسط إيرادات إضافية تصل إلى 1.3 تريليون دولار في السنوات المقبلة، مما سيضخ الأموال مباشرة إلى السعودية والإمارات وقطر التي باتت أكبر مصدر في العالم للغاز الطبيعي المسال الذي من المتوقع أن يلعب دوراً محورياً في التحول إلى الطاقة النظيفة خلال العقود المقبلة.
وعلى الصعيد الداخلي، تبنت جميع دول مجلس التعاون الخليجي في مرحلة ما استراتيجية التنويع لخفض اعتماد النمو الاقتصادي على النفط وإيجاد طرق بديلة للحفاظ على الرفاهية الوطنية. وكانت العاصمة الرياض قد استضافت الاجتماع الرابع للجنة الثروة المعدنية بدول مجلس التعاون الذي عقد في 8 مارس/ آذار الماضي. وركز الاجتماع على تعزيز التعاون والتنمية في قطاع التعدين والموارد المعدنية في المنطقة.
وتُعد السعودية أكثر دول الخليج غنىً بالثروات المعدنية. وأطلقت قانون الاستثمار التعديني الجديد في يناير/ كانون الثاني من العام 2021. وتشير البيانات الرسمية، إلى أنه منذ بدء صدور نظام الاستثمار التعديني الجديد في السعودية، ارتفعت التراخيص التعدينية من 8 رخص قبل تفعيل النظام إلى 19 رخصة في عام 2023، أي بنسبة نمو بلغت 138 في المائة، وفق ما أعلنت وزارة الصناعة والثروة المعدنية.
على سبيل المثال، تتمتع السعودية بـ 15 معدنًا قابلاً للاستغلال تجاريًا. ويعمل في قطاع التعدين بالمملكة حوالي 250 ألف موظف. كما يساهم القطاع بحوالي 17 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي السعودي (أي نحو 15%)، كما يسهم القطاع كذلك بنحو 7 مليارات دولار من إجمالي الصادرات السعودية، وذلك وفق بيانات سعودية. ويستهدف قانون التعدين السعودي الجديد استغلال الموارد المعدنية في المملكة.