وسط أزمة مالية وعقارية طاحنة، وركود يسود الأسواق المصرية، تشهد تجارة المقابر رواجاً غير مسبوق، في أنحاء البلاد.
وتضاعفت أسعار القبور، بمعدلات سريعة، تزداد صعوداً، كلما اقتحمت الحكومة أرضاً بمعداتها الثقيلة لإزاحة مقابر قديمة عن أماكنها، فتسوي ببعضها الأرض، وتضيق على أخرى، لشق طرق سريعة، حول العاصمة والمدن الكبرى.
ازدادت الظاهرة استفحالاً، بعد أن أرسلت الحكومة مخبري تحريات أمنية، على مدار عام 2022، لإعداد حصر شامل بمقابر المدن والقرى، ووضعت علامة على الكثير منها تحمل لفظ "إزالة".
تجاهل الناس الكلمات لعدة أشهر، فإذا بهم ينتفضون بعد تسلمهم قرارات بإزالة مقابرهم ورؤيتهم "البلدوزرات" تدك مقابر رموز إسلامية وشخصيات وطنية، صنعت أمجاداً للأمة عبر التاريخ.
واستنفرت الحكومة أجهزة المحافظات، لعرض بيع مساحات واسعة للجمهور وشركات المقاولات، لإقامة مقابر حديثة، بمناطق العاشر من رمضان والعبور ومدينة بدر شرق العاصمة، وأخرى على طريق العين السخنة والقاهرة الجديدة، وثالثة في توسعات بطريق الفيوم- القاهرة، ومدينة 6 أكتوبر، غرب العاصمة، ومدن 15 مايو وحلوان بالجنوب والمحافظات التي تملك ظهيراً صحراوياً بدلتا النيل وجنوب الوادي.
فاجأت الحكومة المواطنين بعرضها سعر المقبرة وفقاً للسعة والتجهيزات، بأسعار تبدأ من 200 ألف جنيه إلى 350 ألف جنيه، بمساحات تبدأ من 25 إلى 40 متراً مربعاً، بدلاً من تحصيل حق انتفاع لمدد تصل إلى 50 عاماً، بقيمة لا تتجاوز 500 جنيه لأرض المقبرة التي لم تقلّ يوماً عن 40 متراً (الدولار = نحو 31 جنيهاً).
أصبحت الجهات الحكومة أكبر مستثمر عقاري في القبور، منذ عام، استطاعت خلاله بناء مقبرة على مساحة 10 كيلومترات مربعة على طريق العين السخنة، بتجهيزات مغرية، واستراحات فاخرة، مفروشة بالرخام ومظلات تحيط بها الأشجار، وتجهز أخرى على الطرق الصحراوية الرئيسية.
شكلت الحكومة جهاز استثمار في المقابر يرأسه المحافظون مباشرة، باسم "جهاز جبانات المحافظة"، بعد أن كان إدارة صغيرة للجبانات يتبع البلديات. يتولى الجهاز الذي يديره سكرتيريو عموم المحافظات، تخصيص المقابر سابقة التجهيز، وبيع الأراضي للمطورين والأفراد.
وجهت المحافظات مساحات واسعة لمطورين عقاريين، من بعض المقاولين وحراس المقابر، الذين تحولوا إلى مقاولي إنشاء وبيع قبور جديدة. وضع جهاز الجبانات مواصفات، يلزم بها المطورين من حيث المساحات، وشروط البناء، برخصة ارتفعت قيمتها من 500 إلى 5 آلاف جنيه للمقبرة الصغيرة.
تسببت الزيادة الهائلة في سعر المقابر في تراجع متوسط المساحات إلى 20 متراً للمقبرة، تتضاعف قيمتها مع زيادة المساحات. تباع مقبرة الـ20 متراً ما بين 180 ألفاً إلى 350 ألف جنيه، والمتوسطة سعة 40 متراً ما بين 320 ألفاً إلى 600 ألف جنيه، والأحواش بمساحة تزيد عن 120 متراً ما بين مليون إلى مليوني جنيه حسب الموقع وقربه من الطرق الرئيسية.
زادت الأسعار بمعدلات هائلة، خلال عدة أشهر، فالحكومة تضيق على سكان القبور، وتضغط الأسعار على الأحياء، في وقت تتدهور قيمة الجنيه وترتفع معدلات التضخم في أسعار المستهلكين بنسب غير مسبوقة تاريخياً، بلغت نحو 37% الشهر الماضي، بينما تعدت 41% بالتضخم الأساسي وفقاً لتقديرات البنك المركزي.
في جولة ميدانية لـ"العربي الجديد" على مقابر حول العاصمة، نهاية الأسبوع الماضي، رصدت تنافساً كبيراً بين الأجهزة الحكومية على أراضي المقابر الحديثة. دخلت وزارة الإسكان حلبة الصراع على "بزنس القبور" عبر هيئة التعمير وأجهزة المدن التابعة لها، بما لديهم من يد سلطة واسعة في توزيع الأراضي بالمدن الجديدة.
تخصص الوزارة مساحات لجبانات تخطط الحكومة لإقامتها، لتكون بديلة عن المقابر التي تزيلها بمنطقة الإمام الشافعي والقرافة الصغرى والكبرى، الواقعة بمسار الطريق الدائري الذي تنفذه في طريق جبل المقطم.
تبني شركات تابعة للجيش آلاف المقابر، في طريق العين السخنة، للعاملين بها والجمهور. تشارك أجهزة الجبانات بالمحافظات المطورين العقاريين في بناء مجمعات قبور على طريقة "كومبوندات" الإسكان الفاخر بمدن العبور و6 أكتوبر وبدر والقاهرة الجديدة، عدا ما تخصصه من مساحات تتراوح ما بين 1000 متر وعدة أفدنة لجمعيات تابعة لجهات عامة وشركات، تتولى بناء القبور لصالح أعضائها فقط.
يعرض المطورون بيع المقبرة نقداً وبالتقسيط لفترة زمنية تتراوح ما بين 6 أشهر إلى 3 سنوات. تشهد وسائل التواصل الاجتماعي زخماً واسع النطاق، بعروض من عشرات الشركات، لبيع القبور مبنية بالطوب الحجري أو الوردي أو الرخام والغرانيت، مع بوابات حديدية واستراحات لاستقبال المعزين.
ترفض الشركات الكشف عن الأسعار علناً وتفضل التعامل المباشر أو عبر الهاتف الشخصي مع الجمهور. يرجع مسوقون الأمر إلى مخاوف الشركات من فرض الحكومة ضرائب على مبيعاتهم، بعد أن طبقت نظام تحصيل الضرائب بالفواتير الإلكترونية على شركات المقاولات.
يؤكد مشترون أن المقاولين يحققون أرباحاً طائلة، حيث تنفرد شركات بيع القبور بأرباح خيالية. تصل تكلفة المقبرة الصغيرة إلى نحو 40 ألف جنيه شاملة الأرض والمباني، ترتفع إلى 60 ألف جنيه للمساحات الأكبر وفي حال إضافة الرخام والسيراميك والمظلات لا تزيد عن 100 ألف جنيه، وفقاً لمشترين تولوا بناء مقابرهم بأيديهم.
امتنع محمد، وهو مدير التسويق بشركة كبيرة متخصصة في بيع القبور بجميع المدن الكبرى حول العاصمة، عن الإدلاء بأي معلومات، بعد أن علم أننا تواصلنا معه بغرض إجراء مقابلة صحافية، بينما حرص آخرون على الإدلاء ببيانات البيع، من دون ذكر أسمائهم وشركاتهم، خوفاً من ملاحقة رؤسائهم والجهات الحكومية التي يعملون لحسابها.
من جانبه، أخبر مسؤول التسويق في شركة تطوير عقاري ذائعة الصيت في بناء القبور، أمين عبد الحميد، "العربي الجديد"، بأن سعر المقبرة مساحة 40 متراً، تشطيب متوسط، يتراوح ما بين 320 ألف جنيه و350 ألفاً، في العبور ومقابر طريق الفيوم وبدر والعين السخنة، ويصل إلى 600 ألف بمقابر 6 أكتوبر القديمة والقاهرة الجديدة، ومدينة نصر. يشير عبد الحميد إلى أن البيع بالتقسيط يجري على المقابر الحديثة، بعد دفع "مقدم" اتفاق للشراء بقيمة 10 آلاف جنيه، يعقبه سداد 180 ألف جنيه نقداً، لأول قسط، يتسلم بعدها المشتري المقبرة.
وتحصل قيمة المقابر القديمة نقداً، وتبدأ أسعارها من 600 ألف جنيه بالمدن الجديدة وترتفع إلى ما يزيد عن مليون جنيه، وسط مصر الجديدة، ومدينة نصر والأحواش الكبيرة بمدن 6 أكتوبر ومقابر الجيش بطريق العين السخنة، ومقابر القاهرة القديمة غير المعرضة للهدم.
واعتاد المصريون منذ عهد الفراعنة على الاهتمام بتشييد قبورهم، ولم تتغيّر عادتهم كثيراً مع دخول المسيحية ثم الإسلام، إذ تدل الشواهد التي تدك أجهزة الدولة بعضها حالياً على توظيفهم الهندسة المعمارية والطاقات الفنية والإمكانات المالية الهائلة، لتعكس المقبرة قيمة صاحبها والعائلات التي تمثلها.