تأخرت إيطاليا في اللحاق بركب المد الاستعماري الأوروبي، أو ما أُطلق عليه التدافع "من أجل أفريقيا" في ستينيات القرن التاسع عشر الذي شهد ميلاد إمبراطوريات كبرى شيدتها بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وهولندا.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914، حانت الفرصة لإيطاليا لكي تستحوذ على قطعة من تلك الكعكة من بين أراضي الدولة العثمانية التي كانت آخر ما تبقى من أراض مفتوحة للاستعمار، فضمت إريتريا والصومال وأحكمت سيطرتها على أجزاء من تركة (رجل أوروبا المريض) بما في ذلك ليبيا وإثيوبيا، التي نجحت في ضمها بعد 4 عقود من الفشل والهزيمة ومن ثم إعلان (الإمبراطورية الإيطالية) رسمياً في 9 مايو/أيار 1936.
وبعد أن نجحت قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وتحديداً في عام 1943 في السيطرة على المستعمرات الإيطالية وغزو إيطاليا عينها، باتت الإمبراطورية الإيطالية أثراً بعد عين.
لكن تلك أمَة قد خلت، فها نحن اليوم بصدد بلدان القارة السمراء، التي صارت اليوم شريكاً له الأولوية لأسياد الأمس، جاراتها الشمالية في القارة العجوز، وذلك بالنظر إلى الارتباطات الوثيقة التي برزت هناك بوضوح بين قضايا التنمية المستدامة والسلام، مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، والتجارة غير المشروعة وتدفقات المهاجرين واللاجئين، علاوة على التغير المناخي وأخيراً تفشي جائحة كورونا وتداعياتها على الاقتصاديات القارية، ولا سيما ما يتعلق باستدامة الدين.
وذكرت دورية الدبلوماسية الاقتصادية الصادرة عن وزارة الخارجية والتعاون الدولي الإيطالية في تقرير حمل عنوان "الزراعة والطاقة والبنى التحتية: ركائز الاستراتيجية الإيطالية من أجل أفريقيا" أن الحديث عن أفريقيا بوصفها قارة المستقبل لم يكن سديداً مثلما هو الحال في هذه الفترة على وجه الخصوص، أيضاً على ضوء الأهمية المحورية المتنامية التي تكتسبها حيال ظواهر عالمية تزداد تعقيداً.
في هذا السياق، وفي غضون السنوات الأخيرة، ثارت فرضية إطلاق "خطة مارشال من أجل أفريقيا" بهدف تشجيع النمو وإيجاد فرص عمل في القارة بأسرها.
وعلى الرغم من ذلك، فثمة اختلافات بارزة بين أوروبا ما بعد الحرب وأفريقيا الحالية: وهنا تجدر الإشارة إلى أن خطة مارشال القديمة كانت قد نجحت في إحياء عملية الإنتاج الاقتصادي في دول كان لديها بنية مختلفة الأبعاد من الشركات ومنظومة مصرفية مهيكلة وأيد عاملة متخصصة، أمّا في أفريقيا فإننا على العكس بصدد اقتصاديات هشة تعتورها ندرة في التواجد الصناعي ومستويات دنيا من الأيدي العاملة المتخصصة ونقص في البنى التحتية.
وتابعت الدورية أنه لهذا السبب، فإن الهدف الرئيس للاستراتيجية الإيطالية والأوروبية هو توجيه موارد التعاون والاستثمارات الإنتاجية في أفريقيا نحو القطاعات ذات الأولوية، مثل التأهيل والتعليم والتدريب المهني، علاوة على تعزيز دوائر الأعمال المحلية.
في هذا الإطار، قدمت وزارة الخارجية الإيطالية في ديسمبر/كانون الأول الماضي وثيقة سياستها الاستراتيجية تحت عنوان "الشراكة الجديدة مع أفريقيا"، وحددت فيها أولويات السياسة الخارجية الإيطالية في القارة السمراء.
أحد فصول هذه الوثيقة خُصص لقطاع الشراكات التجارية والاستثمار، بوصفه واحدا من ركائز الاستراتيجية الإيطالية في أفريقيا، التي تشهد تداخلاً بين جهود مؤسسات الدولة والشركات والقطاع الخاص والمؤسسات المصرفية والخيرية، في تأكيد جديد على الإمكانيات التي من الممكن أن تعبر عنها تلك القطاعات في إطار عملية مستدامة للنمو والتنمية في القارة السمراء.
وأوضحت أن البُعد المؤسساتي النمطي أضيف إليه، بموجب هذه الاستراتيجية، بعد للتواصل بين الشعوب، والذي من شأنه الإسهام في تغذية تلك الرؤية للشراكة بشكل كامل، وعلى أساس حضور إيطالي على نطاق واسع، وعلى سلسلة من المبادرات في مجالات متعددة.
ولا ينبغي أن نقلل، في هذا السياق، دور الجاليات في الخارج عبر التحويلات المالية المهمة التي ترسلها إلى أوطانها. والشيء ذاته يصدق على الدور الثمين للتواصل بين إيطاليا والدول القادم منها المهاجرون، وما يتصل به من مردود إيجابي أيضاً فيما يتعلق بفرص الاستثمار المتاحة لشركاتنا.
أضف إلى ذلك الاستثمارات التي تنفذها الشركات الإيطالية، عبر شراكات إنتاجية، والتي من الممكن أن تسهم في التنمية ليس فقط من خلال تصدير الآلات والمعدات ذات التكنولوجيا العالية، ولكن أيضاً عبر نقل التقنية.
ولفتت الدورية إلى أن القطاعات التي تبدو واعدة أكثر من غيرها لتمدد منظومة الاستثمارات الإيطالية في أفريقيا تتمثل في القطاع الزراعي-الغذائي، وقطاع الصناعات الزراعية اللذين يمثلان معاً قرابة نصف الناتج المحلي الإجمالي الأفريقي، كما تتوافر بهما فرص قوية للتنمية في القارة، مع الأخذ في الاعتبار أن الزراعة في كثير من البلدان الأفريقية تستوعب الجانب الأعظم من الأيدي العاملة المتاحة.
وفي هذا السياق، يأتي قطاع الطاقة في المركز الثاني، ولا سيما مصادر الطاقة البديلة والمتجددة، مع العلم بأن ما يقرب من 600 مليون شخص أفريقي اليوم ليس لديهم نفاذ إلى الطاقة الكهربائية، وأن النمو السكاني والتوزيع الحضري الحديث (نصف سكان أفريقيا سيعيش في المدن في العام 2030، بينما ستكون القارة السمراء موقعاً لـ13 من أكبر مدن العالم بحلول 2100) سوف يؤديان إلى حدوث زيادة مفرطة في الطلب على الطاقة في القارة.
إلى ذلك، يحل في المركز الثالث قطاع البنى التحتية، والذي تمثل تنميته أهمية بالغة من أجل السماح للقارة الأفريقية بتشجيع التنمية الذاتية، ودفع عجلة التجارة البينية الأفريقية.
وأشارت دورية الدبلوماسية الاقتصادية الإيطالية إلى أن إيطاليا تحظى، في هذه القطاعات، بحضور لاعبين مهمين، وبالتالي يمكنها توجيه دفعة قوية لصالح القارة الأفريقية.
ومن بين الأمثلة على هؤلاء اللاعبين نشير إلى شركة "إينيل" العاملة في قطاع الكهرباء والطاقة المتجددة، ومجموعة "إيني" العاملة في قطاع النفط والغاز، مع توجه للابتكار نحو تحول الطاقة والحد من الانبعاثات والتنمية المستدامة، وشركة "تيرنا" للإمداد بالكهرباء، وشركة "سنام" لشبكات الغاز الطبيعي وتطوير الهيدروجين، وشركة "سايبم" للبنى التحتية المتعلقة بالنماذج الجديدة للطاقة المستدامة.
تجدر الإشارة في هذا المقام إلى تعاون كونسورتيوم Res4Africa مع دول بعينها، ومع الاتحاد الأفريقي من أجل التدريب في مجال الطاقة المتجددة، علاوة على اللجنة الاقتصادية لأفريقيا في أنشطة مماثلة إلى جانب مشروعات ثنائية.
وهكذا، نجد أن إيطاليا (البيضاء) صارت لا تجد غضاضة، بل تسعى إلى مغازلة أفريقيا (السمراء) من أجل إقامة استثمارات مشتركة من شأنها شد عضد اقتصادها غير المستقر، ولا عجب في ذلك، فالمثل اللاتيني الشهير يقول "Pecunia non olet" أو المال لا رائحة له.