رحلة إلى القدس

12 نوفمبر 2020
فرص ترامب في تغيير النتيجة تبدو ضئيلة (Getty)
+ الخط -

فاز جوزيف بايدن، على ما يبدو، برئاسة الولايات المتحدة. ومع أن الرئيس الحالي، دونالد ترامب، يرفض التسليم بذلك، إلا أن فُرَصه في تغيير النتيجة تبدو ضئيلة. وَلَن يمضي أسبوعان أو ثلاثة، أو حتى الثامن من شهر ديسمبر/ كانون الأول على أبعد مدى، حتى يرفع الراية البيضاء، ويبدأ في لملمة أوراقة وياقاته وَعِزالِهِ، ويخرج من البيت الأبيض.

ونحن نذكره، مواطنين عربا ومسلمين، بأنه الرئيس الذي تجرّأ على التنكر لحق الفلسطينيين والأردنيين والعرب والمسلمين، وكثيرين من مسيحيي العالم، ونَقَلَ السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، وقطع العلاقات مَعَ السُّلطة الفلسطينية، وقطع التمويل عنها، وعن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (UNRWA)، واعترف بضم الجولان لإسرائيل، وخرج علينا بمشروع صفقة القرن، وغيرها من القرارات السخيفة، مثل منع مواطني دول إسلامية من السفر إلى الولايات المتحدة.

إنتاج متنوع
وفِي هذا الصدد، يستوقفني موقفه المتطابق مع واحد من أكثر الناس عنجهية وغروراً، وهو بنيامين نتنياهو، المتحدر من أسوأ مدرسة عنصرية، قادها جابوتنسكي في الربع الثاني من القرن الماضي، وصاحب نظرية "الحائط الحديدي" التي تطالب بالضغط على الفلسطينيين، حتى يخرجوا من فلسطين. وفِي عهد الاثنين، ترامب ونتنياهو، وافق الكنيست الإسرائيلي على "قانون الأساس" المسمّى بقومية الدولة اليهودية، والذي اعتبر الديانة اليهودية قوميةً لها وطن اسمه "إسرائيل"، أو فلسطين عبر التاريخ، بحجج خرافية واهيه، كذَّبها بعض المؤرخين الإسرائيليين واليهود. 
لم تكن فلسطين أرضاً فارغة، ولَم تكن بلا إنتاج متنوع، ولا يستطيع أحدٌ أن ينكر غناها الثقافي والفكري عبر التاريخ، وأن صدرها الحنون قد اتسع لكل مَن أثراها. وإبراز هذه الجوانب المعمارية والفنية والأدبية والتجارية والصناعية والخدمية أمر ضروري، لأن مثل هذه الفنون بمفهومها الواسع لا يمكن أن تحصل في مجتمع ما بالمصادفة، بل تأتي نتاجاً لتراكم قرون من الحضارة والبناء لسكانٍ عمّروها وأبدعوا فيها.

الموسوعة الفلسطينية
وقد عثرت على مراجع كثيرة كُتِبَت في هذا الشأن، مركّزاً أحياناً على مدونات عميقة من رحالة ألمان، أو إنكليز، أو غيرهم. وفرحت كثيراً عندما أصدر الدكتور محمد هاشم غوشه الموسوعة الفلسطينية، شارحاً فيها كل جوانب هذا الغنى الثقافي والاجتماعي والعمراني منذ القرن السادس عشر.

وفرحت كثيراً بمدونة أصدرها الدكتور هشام الخطيب، وزير الطاقة والتخطيط سابقاً في الأردن، ورئيس شركة كهرباء القدس ورئيس سلطة الكهرباء الأردنية قبل ذلك. ومع أنه يحمل شهادة الدكتوراه في هندسة الكهرباء من المملكة المتحدة، إلا أن للرجل، شفاه الله وعافاه، جوانب فنية عظيمة. وقد عكف، خلال مدة دراسته في بريطانيا، على جمع لوحات وصورٍ أصلية للوحات، رسمها فنانون ورحالة مستشرقون كثيرون في الوطن العربي، وهؤلاء الفنانون، المسمون المشرقيين (orientalists)، أتوا من معظم البلاد الأوروبية بأعداد كبيرة منجذبين لسحر الشرق وإغراءاته.
وجمع هشام الخطيب لوحات كثيرة كان يجدها في الدكاكين القديمة في بريطانيا. وكان لا يشبع من جمعها ضمن ما يستطيع أن يوفره من مخصصاته المالية المحدودة. وعلى الرغم من أن بعض هذه اللوحات قد حظيت باهتمام أصحاب الذوق الفني والأغنياء والمستثمرين، ما رفع أسعارها إلى أرقام مجزية جداً، إلا أن الخطيب أصر على ألا يفرط بما عنده، وحافظ على مجموعته. وقد أهدى بعضها إلى دور عرض الفنون وغيرها، ولكنه ما زال يحتفظ بأكثرها.

التركة الثمينة
ومن ألطف ما جمعه مخطوطة وجدها في إحدى المكتبات البريطانية بقلم فنانة ورحالة شابة بريطانية غير معروفة الاسم. وقد عنونت مخطوطتها التي أعدتها عام 1902 باسم "رحلة إلى القدس: كتاب إلى المخلصين من قبل شخص كان هناك"، وبالإنكليزية "A Voyage to Jerusalem: A Handbook for Divines by One Who Went ".
وكانت المخطوطة المكتوبة بخط اليد مشفوعة بالرسومات التي رسمتها هذه الفتاة، ولَم يكتب لها الحظ بنشرها. والحقيقة أن هذه التركة الثمينة التي سبقت وعد بلفور بخمسة عشر عاماً (مرت ذكراه يوم 2/11 بدون احتفالية)، تؤكد أن المجتمع البريطاني الذي أصدر ذلك الوعد لم ينبع من جهل بحقيقة الأمور في القدس وما حولها، بل كان المثقفون الإنكليز، مثل باقي التجمعات الأوروبية، على علم أكيد بما تحتويه فلسطين ومدنها من عمق حضاري وتنوع ثقافي وحياة اجتماعية أصيلة عميقة.
وقد نشر هشام الخطيب، ابن عكا والقدس، هذه المخطوطة بأحرف إنكليزية حديثة لكل صفحة كتبت بخط يد تلك الفنانة مجهولة الهوية. ونقل الصور واللوحات التي رسمتها بإتقان بديع. .. قرأت الكتاب ومذكرات الشابة بشغف كبير، لأنه يمثل مقطعاً متكاملاً لحياة القدس وفعالياتها وأناسها وأماكنها قبل 118 عاماً، حينما لم يتجاوز عدد اليهود في كل فلسطين 4% من سكانها.

هذا الكتاب الثمين الذي طبعه الدكتور الخطيب على نفقته الخاصة يجب أن يحظى باهتمام كل غيور حريص على تراثنا العربي الإسلامي في القدس، وخصوصا أن إسرائيل تطمس الهوية التي لا تستطيع سرقتها وتمارس كل الضغوط من أجل طرد سكانها الصابرين المثابرين، ولكنهم متشبثون بعناد أهل الخليل، وكبرياء أهل القدس، وعزّة كل عربي، وإيمان كل مسلم، وقداسة كل مسيحي يشرف القدس.
على المكتبات العربية والبيوت العربية أن تقتني نسخاً من هذه المخطوطة الرائعة، والتي طبعت في كتاب واحد، بشكل مشرف. نقول شكراً للدكتور هشام الخطيب، وأمد الله في عمره.

المساهمون