في بداية شهر أغسطس الماضي وقف وزير المالية المصري، محمد معيط، أمام جمع من المستثمرين بمحافظة بورسعيد "شمال شرق البلاد"، ليعلن وكله ثقة أن الحكومة ستقضي خلال عامين فقط على ديون مصر نهائيًا، كما ستسلم البلد آمنا إلى من يأتي بعدها.
وبعدها بشهر الوزير أعلن أنه لم يتبق سوى عامين حتى يشعر المواطن بتحسن في الظروف المعيشية، رغم أن المواطن سمع هذه الوعود في منتصف عام 2014 وتكررت مرات كثيرة في السنوات اللاحقة.
ساعتها سخر البعض من هذه تصريحات الوزير، واعتبروها نكتة "سمجة" تأتي ضمن موجة النكات التي تطلقها الحكومة من وقت لآخر، وأبرزها النجاح الساحق لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، وإشادة المؤسسات المالية الدولية المتواصلة بالاقتصاد المصري الذي بات يحقق معدلات نمو تفوق معدلات النمو في الولايات المتحدة واليابان وبريطانيا حسب التصريحات الرسمية.
بل إن المصريين نظروا لتصريحات الوزير على أنه يتعامل مع قطاع كبير من المواطنين وكأنهم مجموعة من "الأشخاص الذين يدركون ما حولهم" ويجب أن يقبلوا أية تصريحات أو حتى أكاذيب تصدر من هنا أو هناك حتى لو كانت تنتمي لإعلام الستينيات.
لا تتوقف الحكومة عن إطلاق تصريحات لدغدغة مشاعر المصريين حول الدين العام للبلاد، والذي تتجاوز قيمته نحو 7 تريليونات جنيه حسب إحصاءات غير رسمية، ونحو 6 تريليونات حسب الإحصاءات الرسمية الصادرة اليوم من البنك المركزي مقابل 1.7 تريليون فقط في شهر يونيو 2013.
ومن آن لآخر تتحدث أوساط حكومية ومسؤولون عن أن الدين العام في الحدود الآمنة، وأن حجمه ونسبته مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي لا يمثلان خطرا على الاقتصاد القومي والأجيال المقبلة، ومن وقت لأخر يخرج علينا مسؤول يتحدث عن خطة لخفض الدين العام بشقيه الخارجي والمحلي، أو عن برنامج لإعادة هيكلة الدين وتحويل الجزء الأكبر من قصير الأجل إلى طويل الأجل.
لكن الواقع المرير يقول عكس ذلك، والأرقام المفزعة التي كشف عنها البنك المركزي المصري اليوم الأربعاء تثير قلق أي شخص حريص على أمن مصر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي معاً، وتعطي إنذارا قوياً على خطورة تسارع وتيرة الاقتراض، أو أن البلاد تكون بهذه الأرقام قد دخلت مرحلة الخطر.
كما تعطي انطباعاً بأن فترة توجيه إيرادات الدولة كاملة لسداد بند واحد هو تكلفة أعباء ومستحقات القروض قد اقتربت، وهو ما حذرت منه في فترة سابقة، وأنه جاء الوقت، أو اقترب، الذي يتم فيه تخيير المصريين بين أمرين كلاهما مر، الأول هو إما إنفاق إيرادات الدولة من ضرائب ورسوم حكومية وقناة السويس والسياحة وأرباح شركات قطاع الأعمال العام وبيع أصول الدولة وغيرها على خدمات التعليم والرعاية الصحية ودعم أسعار السلع الرئيسية، والثاني هو سداد مستحقات الدائنين سواء الدوليين أو البنوك المحلية.
مثلاً، ونظرة على مستحقات العام المالي الماضي 2018-2019، فإن على الدولة سداد 541 مليار جنيه تكلفة أسعار فائدة مستحقة على الدين العام الحكومي "فوائد"، وسداد 276 مليار جنيه قيمة أقساط الديون المستحقة، ومجموع الرقمين هو 817 مليار جنيه، وحجم إيرادات الدولة 989 مليار جنيه.
أي أن ما يتبقى من الإيرادات العامة بعد سداد الفوائد والأقساط يبلغ نحو 172 مليار جنيه فقط، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية بند واحد هو الدعم الحكومي، أو لسداد نصف مستحقات رواتب موظفي الجهاز الإداري للدولة البالغ تكلفتها حاليا ما يزيد عن 300 مليار جنيه.
وحسب أرقام البنك المركزي المصري التي أعلنها اليوم، فإن إجمالي الدين العام المحلي ارتفع 18.8% خلال عام ليصل إلى 4.204 تريليونات جنيه (256.2 مليار دولار) في نهاية مارس / آذار الماضي. وزاد الدين المحلي 19% ليصل إلى 4.204 تريليونات جنيه، في حين زاد الدين الخارجي 20.4 بالمئة إلى 106.221 مليارات دولار.
أرقام البنك المركزي تتوقف عند 6 شهور مضت، ولا نعرف السبب وراء كل هذا التأخر في الإفصاح عن رقم الدين العام، رغم أهميته القصوى وتوافر كل البيانات المتعلقة بحجم الدين لدى البنك.
لا يوجد خطة واضحة ومعلنة لوقف هذا النزيف في الاقتراض خاصة الخارجي، حيث أعلنت الحكومة قبل أيام عن اتجاهها لاقتراض 7 مليارات دولار عبر طرح سندات دولية، ليضاف الرقم إلى ديون البلاد الخارجية التي تتجاوز حالياً 110 مليارات دولار.
لنأخذ عبرة من تجارب الدول الأخرى التي تساهلت مع ملف الدين، ولنتابع ما يحدث حاليا في الأرجنتين.