أصدرت وحدة الإحصاءات في دويتشه بنك الألماني تقريراً مفصلاً عن أزمة العملة في مصر. وقال التقرير إن مصر خفضت قيمة عملتها ثلاث مرات منذ أن أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى نضوب مفاجئ في تدفقات النقد الأجنبي. يتداول الدولار مقابل الجنيه المصري الآن أضعف بنسبة 50% مقارنة بمستواه في أوائل عام 2022. وعلى الرغم من ذلك، لم ينحسر الضغط على سعر الصرف.
في إبريل/ نيسان 2023، ارتفعت العقود المحلية الآجلة غير القابلة للتسليم إلى 160%، وهو ما يعكس توقعات السوق بتخفيض رابع لقيمة العملة. في الوقت الحالي، يقترح وكلاء في السوق الموازي سعر صرف أقرب إلى 46 جنيهاً وبالتالي أعلى بنسبة 33% من السعر الحالي، وفق التقرير.
التقييم المشترك، بقيادة صندوق النقد الدولي، هو أن نظام سعر الصرف شبه الثابت في مصر هو مصدر المشكلة. لذلك، يدفع صندوق النقد الدولي من أجل المرونة الكاملة لسعر الصرف في أحدث برامجه الذي سيتطلب على الأرجح تخفيضاً آخر لقيمة العملة بالإضافة إلى خصخصة الشركات المملوكة للدولة.
يشرح التقرير أنه من غير المرجح أن يؤدي خفض رابع لقيمة العملة إلى حل التحديات الكامنة في مصر، وقد يؤدي إلى نتائج عكسية في جذب عودة التدفقات المستدامة إلى مصر.
التوقعات المستقبلية
ويعتبر التقرير أن إجراء تخفيض آخر لقيمة العملة ليس الطريق الصحيح للمضي قدماً، و"لكننا نقر بأن مرونة سعر الصرف تظل محورية لبرنامج صندوق النقد الدولي وكذلك الدعم من دول مجلس التعاون الخليجي".
في الوقت الحالي، يبدو أن مصر تتمتع ببعض مجال التنفس للتقدم في عمليات الخصخصة، وقد يأتي تعديل آخر على سعر العملة بمجرد المضي قدماً في المراجعة الأولى المتأخرة حالياً لبرنامج صندوق النقد، على افتراض أنه لن يكون هناك تغيير في وصفات سياسة الصندوق.
وحافظ دويتشه بنك على توقعاته لمنتصف العام لسعر العملة المصرية البالغة 31 جنيهاً والتي اقتربت الآن من تحقيقها، وراجع توقعاته لنهاية العام لتصل العملة إلى 37 جنيهاً لتعكس احتمال زيادة ضعف العملة في النصف الثاني من عام 2013.
ويتوقع التقرير من صندوق النقد الدولي أن يدفع باتجاه مزيد من المرونة في أسعار الصرف، بينما يحاول موازنة المخاطر حول التضخم. و"على الرغم من أننا نتوقع تعديلاً إضافياً لسعر الصرف، إلا أننا نعتقد أن إجراء تخفيض آخر لقيمة العملة ليس أداة السياسة الصحيحة. بدلا من ذلك يجب أن يتحول التركيز لمعالجة جذر المشكلة، ألا وهو رصيد الدين المحلي لمصر"، بحسب التقرير.
مشكلة الحساب الجاري
من الناحية النظرية، يلفت التقرير إلى أنه يمكن أن تكون تخفيضات العملة خطوة مفيدة في تقليل الاختلالات الكلية ومعالجة العجز الكبير في الحساب الجاري.
فقد عانت مصر تاريخياً من عجز في الحساب الجاري، إلا أنه كان معتدلاً. في تقييم الاستدامة الخارجية لميزان الحساب الجاري للسنة المالية 2020/ 2021، وجد صندوق النقد الدولي أن عجز الحساب الجاري المعدل دورياً لمصر كان أكبر من المستوى المطلوب.
في أعقاب التخفيضات السابقة في قيمة العملة، شهدت مصر بالفعل تحسناً، حيث عاد حسابها الجاري إلى فائض طفيف في الربع الرابع من العام 2022. تقلص عجز الميزان التجاري بشكل ملحوظ خلال النصف الثاني من العام نفسه.
كان الانخفاض في الواردات مدفوعاً بضعف الطلب ونقص العملات الأجنبية ومتطلبات خطاب الاعتماد. وتحد الحصة الكبيرة من واردات الأغذية بالعملات الأجنبية نسبياً من نطاق المزيد من الانكماش.
في المستقبل، من المتوقع أن يظل الطلب على الواردات ضعيفاً، على الرغم من إلغاء متطلبات خطاب الاعتماد في نهاية عام 2022. بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن تثبت عائدات السياحة دعمها خلال موسم العطلات، بحسب تقرير "دويتشه بنك".
أخيراً، وصلت عائدات قناة السويس إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق في 23 إبريل / نيسان، وحتى الآن تتحدى التراجع الأخير في الطلب على الشحن. ويتوقع التقرير أن يعود الحساب الجاري إلى المنطقة السلبية، ولكن من المرجح أن يكون عجز 2023 أضيق مقارنة بالعام السابق، وفق التقرير.
التمويل الخارجي: جوهر المشكلة
وبعد آخر تخفيض لقيمة العملة في 23 يناير/ كانون الثاني، بدا الجنيه في البداية مقوماً بأقل من قيمته بنسبة 20%. كان ذلك أكثر تواضعا مقارنة بآثار خفض قيمة العملة عام 2016 حيث بدا الجنيه المصري أقل من قيمته الحقيقية بنسبة 30%، لكنه لا يزال كبيرا.
منذ بداية العام، أدى استقرار سعر الصرف إلى تراجع الجنيه المصري، لكن العملة لا تزال رخيصة بنحو 10%.
وتظل القضية الأساسية لمصر هي أن المستثمرين غير مستعدين للتمويل المستدام لعجز الحساب الجاري المتواضع نسبياً. بينما اجتذبت مصر بعض التدفقات في أعقاب التخفيضات الأخيرة في قيمة العملة، تركزت هذه التدفقات في أذون الخزانة.
وفي ظل تقلب الطلب في المزادات الأسبوعية، استمر البنك المركزي في تخطي أهداف العرض، وظلت اهتمامات المستثمرين مركزة على العقود ذات الآجال القصيرة. وتشير بيانات الحيازات الأجنبية الرسمية إلى أن مصر شهدت بعض التدفقات إلى أذون الخزانة بعد تخفيضات أكتوبر/ تشرين الأول ويناير، ومع ذلك، فقد استقرت التدفقات في مارس/ آذار. تظهر بيانات البورصة المصرية أن المستثمرين الأجانب عادوا إلى أن يصبحوا بائعين صافين خلال الشهرين الماضيين.
ونظراً لأن مستثمري المحافظ لا يزالون مترددين في العودة إلى السوق المحلية، يتعين على مصر الاعتماد على التمويل الرسمي من صندوق النقد الدولي وشركائها الثنائيين بالإضافة إلى التقدم في برنامج الخصخصة. يطلب كل من صندوق النقد الدولي ودول مجلس التعاون الخليجي من مصر إجراء عدد من الإصلاحات الهيكلية مع التركيز على خصخصة الشركات المملوكة للدولة ومرونة سعر الصرف، بحسب التقرير.
في حين أن كليهما يقدمان أفكاراً جيدة من الناحية النظرية والتي كانت جزءاً من برامج صندوق النقد الدولي السابقة في مصر، إلا أن وحدة الإحصاءات في "دويتشه بينك" تعتقد أنهما قاصران عن معالجة المشكلة الأساسية التي تقود أزمة العملة هذه، وهي المخاطر العالية في مصر.
وتمتلك مصر حالياً حوالي 170 مليار دولار أميركي من سندات الخزانة وأذون الخزانة القائمة. ويشرح التقرير أن 116 ملياراً وبالتالي 70% من المبلغ الإجمالي مستحق في عامي 2023 و2024. ويتكون هذ المبلغ من 64 ملياراً في شكل سندات من المرجح أن يتم تجديدها، ولكن أيضاً 52 ملياراً من السندات التي ستصبح مستحقة أيضاً. كان ملف استحقاق السندات المحلية المصرية يتراجع ببطء بالفعل على مدى السنوات القليلة الماضية.
واعتباراً من مارس 2022 عندما ترك مستثمرو المحافظ العديد من الأسواق الناشئة ذات العائد المرتفع في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، كافحت مصر للوصول إلى أهداف العرض الخاصة بها في السندات واضطرت بشكل متزايد إلى إصدار فترات أقصر، وهو ما أدى إلى تقصير ملف استحقاقها.
من الآن فصاعداً، يقول التقرير إن مصر تخاطر باضطرارها إلى تمويل الدين طويل الأجل الذي يصبح مستحقاً بمزيد من التمويل قصير الأجل بفوائد أعلى بشكل متزايد، وهو ما يساهم بشكل أكبر في المخاوف بشأن مخاطر التجديد.
تخفيض العملة أم عدم تخفيضها؟
بالنظر إلى أولويات صندوق النقد الدولي، يبقى احتمال إجراء تعديل آخر لسعر الصرف أقوى من غيره.
ويتوقع البنك الألماني من صندوق النقد الدولي اتباع كتابه المدرسي والضغط من أجل مرونة سعر الصرف كهدف سياسي في حد ذاته ودعم جهود الخصخصة.
ومع ذلك، من غير المرجح، وفق دويتشه بنك، أن يحقق تخفيض آخر لقيمة العملة ما فشلت التخفيضات الثلاثة السابقة في القيام به وأن يساعد في تشجيع التدفقات الوافدة. فقد تحسن رصيد الحساب الجاري بالفعل، وهناك مجال محدود لمزيد من الانكماش. ولا يوجد ما يشير إلى أن التخفيض الرابع لقيمة العملة يمكن أن يكون مختلفاً طالما ظلت المخاطر النقدية في مصر دون معالجة.
من ناحية أخرى، هناك مخاطر أخرى لخفض قيمة العملة تتمثل في أن مصر تتورط أكثر في هذه الدورة من التخفيضات المستمرة لقيمة العملة. نظراً لعدم مرونة واردات مصر، فإن ضعف العملة من شأنه أن يساهم في زيادة ضغوط الأسعار المرتفعة بالفعل. ستكون لهذا عدة عواقب ضارة.
أولاً، سيؤدي ارتفاع التضخم، وفق التقرير، إلى تشديد إضافي للسياسة النقدية أو رفع معدلات الفائدة لفترة أطول. المعدلات الاسمية مرتفعة بالفعل بنسبة 18.25%، ولكن توجد زيادات إضافية بمقدار 300 نقطة أساس على الأقل في الوقت الحالي. ثم يتم نقل أسعار الفائدة المرتفعة إلى تكاليف إعادة التمويل المرتفعة على الفور نظراً لأن ملف الاستحقاق يميل نحو فترات أقصر.
ثانياً، سيتطلب ارتفاع التضخم أيضاً دعماً مالياً إضافياً لحماية الفئة الضعيفة من السكان. كل من هذين العاملين من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم المخاطر بشكل أكبر مع احتمال أن يظل المستثمرون حذرين في ظل هذه الخلفية. وبالتالي، فإن تخفيض قيمة العملة من جديد يهدد بترك مصر في الوضع نفسه مرة أخرى.
ولكن كيف سيبدو الحل الأكثر استدامة؟ يعتقد الينك الألماني أن الحل الوحيد طويل الأمد هو أن تزيد مصر آجال استحقاق رصيد ديونها.