ما زالت أصداء الحرب الاقتصادية بين روسيا والدول الغربية تطغى على أجواء المواجهات العسكرية المباشرة على الأراضي الأوكرانية، بعدما كبدت العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية موسكو والكيانات والشخصيات التابعة لها خسائر جسيمة، وامتدت لتطاول آثارها السلبية مئات المؤسسات وملايين المواطنين في الدول الغربية أيضاً، بل وأغلب بلدان العالم.وأعلنت الدول الغربية أن الغرض الأساسي من فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا هو عزلها عن الاقتصاد العالمي، وتكبيل مؤسساتها المالية، والضغط على الدائرة المحيطة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والمواطنين، من أجل دفعهم ربما لفك ارتباطهم بالقوات الغازية وإضعاف الجبهة الداخلية في روسيا.
لكن، وكما كانت الدول الغربية تعلم بالتأكيد، تسببت العقوبات الاقتصادية في الكثير من الآثار الجانبية، والتي كان أكبرها أثراً، وأوسعها انتشاراً، ارتفاع أسعار السلع في كافة أنحاء المعمورة بمعدلات لم نعرفها منذ عقود.
وخلال الأسبوع الماضي، ارتفعت أسعار السلع، من القمح، مروراً بالنيكل والألومنيوم، ووصولاً إلى النفط والغاز بأكبر معدل ارتفاع تشهده منذ عام 1974، في أعقاب حظر العرب تصدير النفط إلى الدول الداعمة لإسرائيل، وما ترتبت عليه من قفزات في أسعار الطاقة والعديد من السلع الأخرى.
تسببت محاولات حصار روسيا اقتصادياً في خنق مصادر رئيسية للطاقة والمعادن والمحاصيل التي يستحوذ بلدا المواجهة على إنتاج نسبة لا يستهان بها من الإنتاج العالمي منها، الأمر الذي دفع التجار والمستوردين للاندفاع والاتفاق على تأمين كميات ضخمة من تلك السلع، مع تجنب أي مُوَرِّد يمكن أن تكون له علاقة بطرف روسي واقع تحت العقوبات.
قفزت الأسعار وارتفع سعر القمح بنسبة تجاوزت 40% ليصل إلى أعلى مستوياته منذ عام 2008، وزاد سعر الغاز الطبيعي الواصل إلى أوروبا بنسبة 33%، وسعر النفط بنسبة تتجاوز 20%، وسعر البالاديوم والذرة بنسبة تقترب من 18%، والألومنيوم بنسبة تقترب من 17%، وسعر الذهب بنسبة 4% تقريباً خلال الأسبوع الأخير فقط.
وعادةً ما يسبب ارتفاع أسعار الطاقة بهذه المعدلات السريعة ارتفاعات في الأسعار، بمعدلات مقاربة أو أعلى، تمتد لتشمل كل شيء تقريباً يشتريه المستهلكون. وتجدر الإشارة إلى أن احتساب معدلات الارتفاع وقف عند نهاية الأسبوع الماضي، وقبل أي ارتفاعات جديدة حدثت مع بداية الأسبوع الحالي.
وخلال السنوات الأخيرة، استحوذت روسيا وأوكرانيا على أكثر من ربع صادرات القمح في العالم بسبب وفرة المعروض لديهما وقلة سعره مقارنة بالقمح الأميركي والكندي والأوروبي، إلا أن الشيء المؤكد أن هذا الأمر لن يستمر خلال الفترة الحالية، ولعدة شهور قادمة.
ورغم أن روسيا ما زالت قادرة على التصدير الجزئي لكميات من القمح تم التعاقد عليها من قبل، إلا أن الاتفاقات الجديدة تراجعت بصورة كبيرة وفي طريقها للتوقف تماماً بسبب غموض الموقف على أرض المعركة، والعقوبات التي يتم توسيعها كل يوم لتشمل أطرافاً جديدة.
وفي مصر، نقلت وكالة بلومبيرغ عن مصادر أنه جرى إلغاء مناقصة لتوريد القمح، الأسبوع الماضي، بسبب عدم وجود عروض إلا من موردين من فرنسا وأميركا، وبتكاليف مرتفعة جداً، وذلك بعد إلغاء مناقصة الأسبوع السابق، التي لم يتقدم لها إلا مورد واحد فقط.
وخصت الوكالة الاقتصادية الأميركية مصر دون غيرها في تقريرها هذا الأسبوع عن ارتفاع أسعار الحبوب لأنها أكبر مستورد للقمح في العالم، لكن من المؤكد أن دولاً عربية أخرى ستعاني بسبب ارتفاع أسعار الحبوب، سواء في شمال أفريقيا، أو في منطقة الخليج العربي، إلا أن الأخيرين يمكنهم الاستعاضة عن ذلك بارتفاع أسعار النفط الذي يصدرونه، ولا عزاء للأردن واليمن.
ويضاف إلى المأساة، التي تنذر بعواقب وخيمة على المواطنين الفقراء في الدول العربية، وهم الأغلبية، بخلاف الضغوط على الميزانيات والعملات المحلية، أن الحرب جاءت في وقت تعثرت فيه سلاسل الإمداد، وتغير فيه المناخ بصورة واضحة، لتشهد أسعار السلع والحبوب ارتفاعات كبيرة قبل دخول الروس الأراضي الأوكرانية، وإذا استمرت الحرب لفترة طويلة كما يتوقع البعض، فمن المؤكد أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية ستكون مهددة بمزيد من التدهور.
وقبل أسبوعين، نصح رجل الأعمال الأشهر في مصر من غير المعروفين بتورطهم في قضايا فساد، بخلاف قضية تهرب ضريبي بمليارات الجنيهات، نصح وزير التموين بالإسراع بشراء وتخزين القمح قبل حرب أوكرانيا وروسيا، مشيراً إلى أنهما معاً ينتجان 30% من إنتاج القمح في العالم، ومحذراً من اشتعال سعره وعدم توفره في حال حدوث حرب.
لم يستمع الوزير لنصيحة رجل الأعمال نجيب ساويرس، فألغى مناقصتين خلال أسبوعين، ليجد نفسه غالباً مضطراً للشراء بأسعار أعلى في الأسبوع القادم، في تطبيق دقيق للمثل المصري القائل "من لا يرضى بالخوخ يرضى بشرابه"، ولعل الدرس هذه المرة يكون واضحاً بضرورة بذل الجهد والمال لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، ومن القمح تحديداً، قبل أن يجوع الشعب أو تفلس البلاد.
تعبر السياسات التي يتبعها أي نظام، والتي تتم ترجمتها في صورة قرارات وقوانين، عن أولوياته وانحيازاته، وخلال السنوات الأخيرة رأينا الحكومة المصرية تنفق ببذخ على طرق وجسور وقطارات سريعة وقصور رئاسية، بينما لم تفكر في زيادة المساحة المزروعة من القمح، رغم علمها بأن مصر أكبر مستورد له في العالم، في دلالة على تجاهل فقراء هذا الوطن، وعدم تحمل مسؤولية أمنهم الغذائي والصحي.
استسلمت مصر لمفاهيم فرضت عليها من الخارج، كأهمية العولمة، وضرورة تنشيط التجارة الدولية، وزيادة التعاون بين البلدان من خلال التركيز على مفهوم المزايا النسبية، الذي ينصح بعض الدول بإنتاج سلع معينة، بينما يفرض عليها استيراد سلع أخرى، ويبدو أن المسؤولين استكانوا لهذه الأمور، غافلين عن ضرورة مراجعة المزايا النسبية تلك مع حدوث تغيرات كبيرة في الأسعار كالتي نشهدها الآن، أو إضافة التكاليف المعنوية غير الملموسة إلى الكلفة الكلية عند الاختيار بين الإنتاج والاستيراد.