في دراسة صادرة عن البنك الدولي، أواخر سبتمبر/ أيلول الماضي، تناقش مدى إمكانية حدوث ركود اقتصادي قريباً، أشار الباحثون إلى ظهور عدة مظاهر عامة سبقت كافة أزمات الركود منذ السبعينيات، أولها حدوث تراجع كبير في معدلات النمو العالمي في العام السابق مباشرةً على الدخول في حالة الركود، فيما ثانيها، والذي لا ينفصل عنه، هو حدوث ركود صريح في عدد من الاقتصادات الكبرى.
كما كان البنك الدولي قد توقّع معدل نمو إجمالي بنحو 1.3% فقط عام 2023، بما يمثّل المعدل الأسوأ منذ أوائل التسعينيات، باستثناء فترات ركوديّ الأزمة المالية العالمية وأزمة كورونا عاميّ 2009 و2020.
ورغم ما يبدو من تعريف للماء بالماء باعتبار هذه المظاهر مؤشرات إلى ركود أكبر في الطريق، فإن الصورة الكلية تدعم هذا التصوّر، خصوصًا مع ما بدأ يظهر كاستجابة لأعراض التضخّم المُصاحبة ضمن حالة الركود التضخمي، من غلبة السياسات التقشفية مالياً ونقدياً لكبح جِماح التضخّم وإبطاء وتيرة نمو الديون، فضلاً عن الآثار الانكماشية للحرب الروسية الأوكرانية عمومًا، وما رتّبته من اضطرابات على أصعدة التجارة الدولية وسلاسل القيمة وخطوط توريد الطاقة والغذاء خصوصاً.
في المقابل، يرى تقرير استبيان توقّعات كبار الاقتصاديين، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، أول العام الجاري، أن الركود المُتوقع لن يكون شاملاً الاقتصاد العالمي بمُجمله، حيث سيختلف الموقف نسبيًا من منطقة لأخرى، مع تأكيد على غلبته على الاقتصادات الرئيسية، فتوقّع معظم المشاركين بالتقرير نموا متوسطا على الأقل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب شرق آسيا ومنطقة الباسيفيكي، فيما أجمعوا تقريبًا على ضعف النمو في الولايات المتحدة وأوربا، وعلى توقّعات أسوأ بثقة أكبر بالنسبة لأوربا من كافة المناطق الأخرى.
توقّع ثُلثا المشاركين بالتقرير ركوداً عالمياً عام 2023، مدفوعاً بنظر نحو 90% منهم بتراجع الطلب الكلي وارتفاع تكاليف الاقتراض
وبالمُجمل، توقّع ثُلثا المشاركين بالتقرير ركوداً عالمياً عام 2023، مدفوعاً بنظر نحو 90% منهم بتراجع الطلب الكلي من جهة، وارتفاع تكاليف الاقتراض من جهة أخرى، وبما سيدفع لمزيد من الركود، باتفاق حوالي 80% منهم، بفعل استجابة الشركات لهذا الوضع بتخفيض عملياتها وأنشطتها عمومًا وتقليص قواها العاملة؛ بما يعنيه ذلك من ارتفاع أسعار السلع بانخفاض المعروض منها، وارتفاع معدلات البطالة والتراجع في الطلب الاستهلاكي.
والواقع أن هذه التوقّعات تحتفظ بقدر من التفاؤل كونها قصيرة الأجل بالأساس؛ حيث تراهن على تحسّنات مُحتملة تكبح جِماح هذا الركود، لكن تتكشّف للنظرة الأكثر اتساعاً والأبعد نظراً اتجاهات أكثر هيكلية تشير لوجود ميل ركودي عميق متوسط وطويل الأجل، حدّ وصفه بعض الخبراء بالركود التاريخي أو المُزمن Secular Stagnation.
لكن قبل الذهاب بعيدًا مع أطروحات الركود التاريخي المُزمن، ذات الأصول الكلاسيكية - منذ آدم سميث أبو العلم نفسه - في الفكر الاقتصادي، فعلى إطار زمني أقرب، لنقل على المدى المتوسط، تبرز عدة مُحرّكات هيكلية تدفع العالم باتجاه ركود أكبر من أن يكون قصير الأجل، بل ركود مُتمفصِّل مع تحوّلات عالمية الطابع، ومشكلات هيكلية على مستوى المناطق، بما يتجاوز مجرد تقلّبات دورية عادية.
هذا ما أكّد عليه تقرير بنك ناتيكسيس Natixis الاستثماري، التابع لمجموعة BPCE، ثاني أكبر بنك في فرنسا، بمسحه للمشكلات الهيكلية التي أصابت أكبر الاقتصادات العالمية، وتكمن خلف التراجع المُتوقع استمراره لمعدلات النمو الكلي، لعقد قادم على الأقل؛ بحكم طبيعتها كمشكلات هيكلية تستلزم حلولاً نوعية تمسّ كامل أوضاع وبُنى هذه الاقتصادات، وتتشابك بطبيعة الحال مع مواقعها من الاقتصاد العالمي وكامل تراتبيته.
الصين تفقد ميزتها التنافسية
فأولاً بدأت الصين تفقد ميزتها التنافسية من جهة التكاليف؛ حيث ارتفعت تكاليف العمالة بشكل مستمر طوال الأعوام الماضية، في ظل هيكل صادرات تسيطر عليه منتجات رخيصة ذات مرونة أسعار مرتفعة؛ أي تمثل الأسعار ميزتها التنافسية الأساسية، فينعكس أي ارتفاع فيها بانخفاض أكبر في كميات الطلب منها، ومن ثم بانخفاض في صافي أحجامها التصديرية وعوائدها التجارية؛ ما يؤدي بمجموعه لانخفاض معدلات النمو الحقيقي للصين؛ ويتطلّب تغييرات جذرية في التوجه الاقتصادي الصيني من التوجّه التصديري للخارج، إلى التوجّه للداخل بدفع الطلب المحلي، ولعلّ هذا ما يفسّر السياسة الصينية لمواجهة الفقر، كمحاولة لتعزيز الطلب الكلي من خلال رافده المحلي، وتعويض التراجع المُنتظر في رافده الخارجي.
اليابان تعاني من تراجع حصص العمالة
على العكس، تعاني اليابان - ثانياً - من المشكلة النقيضة بشكل مختلف، والتي تمثل المسار السائد عالميًا، وهى تراجع حصص العمالة في الدخل القومي، نتيجة استئثار رأس المال بمعظم العوائد؛ ما أدى لسلبية معدلات نمو متوسط الأجور الحقيقية طوال العقد الأخير، رغم استمرار نمو متوسط إنتاجية العمال، وهو ما تضافر مع الآثار السلبية للتضخّم، وضمن إطار السياسات الكلية لاقتصاد آبينوميكس Abenomics - نسبةً لرئيس الوزراء الياباني شينزو آبي وبنفس تصريف ريغانوميكس Reaganomics نسبةً للرئيس الأميركي رونالد ريغان -، ليؤديا مُجتمعيّن إلى تراجع الطلب الاستهلاكي المحلي للأسر اليابانية.
الولايات المتحدة تواجه الركود التضخمي
أما الولايات المتحدة الأميركية، ثالثاً، فتواجه العديد من التحديات الاقتصادية الكلية، ذات الطابع الرأسمالي الكلاسيكي - مُمثّلة خصوصاً في الركود التضخّمي الكامن - منذ السبعينيات، وبمُفاقمة من سياسات التسيير الكمّي المُنفلتة - لمقاومة طفراته الحادة - منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، ما نرى انعكاساته اليوم في سياسات انكماشية وتراجع للائتمان من جهة، وانخفاض للطلب على القروض وانخفاض للتشغيل وتسريح للعمالة من جهة أخرى.
فعلى الجانب الأول، قامت 46% تقريبًا من البنوك بتشديد معايير الإقراض للشركات من كافة الأحجام، وزادت 62% منها علاوات أسعار القروض فوق كلفة الأموال نفسها، وأظهر استطلاع أجراه مجلس الاحتياطي الفيدرالي لآراء كبار مسؤولي القروض بالبنوك الأميركية أنها قد شدّدت معايير الإقراض في كافة المجالات في الربع الأول من العالم الحالي، تماشيًا مع سياسة التشديد التي انتهجها الفيدرالي.
وعلى الجانب الثاني، انخفض الطلب على القروض مع انخفاض توقّعات الطلب على العمالة (ما بدأ يظهر في موجات تسريح للعمالة حتى من بعض الشركات الكبرى في الولايات المتحدة)، وهو الانخفاض الذي تزداد خطورته مع تمثيل البنوك الصغيرة والإقليمية لأكثر من 40% من قروض البنوك التجارية وحوالي 70% من القروض العقارية التجارية، والتي تتعرّض لضغوط خاصة مع تراجع معدلات الإشغال وقُرب تواريخ الاستحقاق، بما يرفع مخاطرها الائتمانية بالعموم، ويفاقم مخاطر الملاءة المالية لهذه البنوك بالخصوص، كما بدأت تتجلّى بوادره في انهيارات بعض البنوك الصغيرة والمتوسطة خلال الشهور الماضية.
وتكشف هذه الأوضاع، مع استطلاعات آراء الرؤساء التنفيذيين للشركات الكبيرة ومؤشرات تفاؤل الشركات الصغيرة، سيطرة ما وُصف بالعقلية الدفاعية على الاقتصاد في أميركا، بما ينعكس في صورة انخفاض للنفقات الرأسمالية والتوظيف في الفترة القادمة.
وتكمن أسباب هيكلية عديدة خلف هذه المظاهر البارزة أخيراً، يأتي على رأسها تباطؤ نمو الإنتاجية وركود متوسط الدخل الفردي الحقيقي لنسبة 99% من السكان، بما يشملانه من عوامل فرعية تتعلّق برأس المال البشري بالأساس، وبما لذلك من انعكاسات سلبية على النمو الكلي، من جهة العرض الكلي بسبب ضعف الإنتاجية، ومن جهة الطلب الكلي بسبب سوء توزيع الدخل، وهما عاملان شديدا الأهمية الهيكلية حدّ توقّع بعض الدراسات استمرار حالة الركود الناتجة عنهما لما يراوح ما بين 20 و50 سنة قادمة.
وتتداخل مع هذه الصعوبات الإشكالات الجيوبوليتيكية للولايات المتحدة ومحاولتها الحفاظ على موقعها الاقتصادي والمالي والنقدي المهيمن عالمياً في مواجهة حالات التمرد الأوّلية المُتمحورة حول القوة الصاعدة للصين وتجمّعها الفضفاض - حتى الآن - بريكس، بشكل يزيد من تعقيدات إدارة السياسة الاقتصادية الكلية، التي تواجه تناقضات ما بين إنقاذ الاقتصاد الأميركي من الركود وتراجع التنافسية من جهة، والحفاظ على الثقة العالمية في الدولار بما يدرّه من مكاسب من موقعه المؤسسي وعوائده المالية من جهة أخرى، تلك التعقيدات التي تنعكس بالسلب على وضع الاقتصاد العالمي بالعموم.
حالة عدم اليقين ونقص الاستثمار في منطقة اليورو
وتسيطر - رابعاً - حالة من عدم اليقين ونقص الاستثمار على منطقة اليورو الأوروبية، بسبب تضخّم الديون وأزمات نموذج دولة الرفاهية وشيخوخة السكان في أبرز مراكزها الصناعية، وعلى مستوى العقدين الماضيين، انخفض الاستثمار العام من 3.2 إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي قبل الأزمة المالية العالمية عام 2008، إلى 2.6% تقريبًا بعدها، مع استمرار الدين العام كنسبة من الناتج الإجمالي بالنمو في معظم دول المنطقة، ما انعكس بمجموعه في ركود الاستثمار الخاص وعدم نموه خلال الأعوام الأخيرة.
ولا شك أن أوروبا كانت أكثر مناطق العالم تأثراً بالتوتّرات الجيوبوليتيكية المتصلة بالحرب الروسية الأوكرانية خصوصاً، مع تمركز الصراع العسكري على أراضيها، بما يستتبعه من ضرورة زيادة مُخصصات الإنفاق العسكري، ومع تراجع إمدادات النفط والغاز الروسي الرخيص لصالح بدائل أخرى أكثر كلفةً، بما يُتوقّع أن يضر بالصناعة الأوروبية وتنافسيتها العالمية بالعموم، وبما يُعزّز الآثار السلبية على الاستثمار والتشغيل خلال السنوات القادمة.
أزمات الاقتصادات الناشئة
ويبرز - خامساً - على مستوى الاقتصادات الناشئة، بخلاف الصين، تراجع نمو الصناعات التحويلية، بسبب العديد من الاختناقات كنقص العمالة الماهرة ونقص إنتاج الطاقة وضعف البنية التحتية ووسائل النقل، فضلاً عن الآثار السلبية لتقلّبات أسعار الطاقة، خصوصاً في حالات الانخفاض، على الاقتصادات مُفرطة الاعتماد على صادرات النفط والغاز، وتحديداً في الدول التي تعاني فعلياً من قيود مالية على الموازنة كروسيا وكندا وأستراليا، بشكل يدفع لتقليص الإنفاق الحكومي والاستثمار العام بطبيعة الحال.
ولا ننسى بالطبع أزمة الديون المتفاقمة في كثير من بلدان هذه المجموعة، حدّ انهيار اقتصادات بعضها وتبخّر قيم عملاتها، ورغم محدودية أحجامها وتأثيرها عالميًا، تظل الآثار التراكمية التي تنتقل من بلد إلى آخر في اقتصاد عالمي شديد التشابك والترابط المالي والنقدي اليوم تهديداً حقيقياً، كذا تفاقم من حجمها الأوزان الديموغرافية الضخمة لبعض دول هذه الاقتصادات، وتمفصل بعضها مع خطوط توريد السلع الاستراتيجية وسلاسل القيمة الأساسية، بحيث تؤدي مُجتمعةّ لمفاقمة حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المتزايدة عالمياً، بما لها من انعكاسات بالسلب على الحالة الهشّة للاقتصاد العالمي المأزوم بالفعل بانقسامات سياسية وتناقضات جيوبوليتيكية عديدة، تكاد تشّقه لنصفين على الأقل، وتدفع به لحالة من الفوضى بالعموم.
وكما نرى، فالمشترك بين كافة الروافد المذكورة وما يجمع بينها هو أنها كلها تقريبًا اتجاهات هيكلية الطابع يصعب عكسها في الأجل المنظور؛ فليس من الممكن معالجتها بسياسات قصيرة الأجل خلال عامين أو ثلاثة وما شابه، بل تتطلّب تحوّلات جذرية وتغييرات استراتيجية في كامل البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بما يعنيه ذلك من صعوبات تنفيذية من جهة، ووقت طويل - من عقد إلى عقدين على الأقل - لتُؤتي ثمارها من جهة أخرى.
وكل هذا دون أن نتعرّض لأطروحة الركود التاريخي سالفة الذكر، ذات الجذور الكلاسيكية والماركسية، والتي أحيتها خصوصًا المدرسة ما بعد الكينزية قبل نصف قرن، مع ما ظهر من بوادر لتراجع ونضوب المُحرّكات الكلاسيكية للنمو طويل الأجل، من نمو سكاني واكتشافات جغرافية وغيرها، بحيث أصبح مرهوناً فقط بالطفرات التكنولوجية التي تتعلّق بها اليوم كافة آمالنا في مستقبل لا يحكمه الركود المُزمن.