تتباين الآراء حول نجاعة خطة الحكومة التركية الاقتصادية وانعكاسها على حياة الأتراك بعد تراجع مستوى المعيشة وزيادة نسبة الفقر، جراء تدحرج كرة التضخم لتسجل 61.5% على أساس سنوي واستمرار ارتفاع أسعار السلع والمنتجات، لتتعدى 150% خلال عام، ما رفع، وفق بيانات رسمية، معدل خط الفقر (تكلفة المعيشة الشهرية للموظف العازب) إلى 41626 ليرة تركية، ما يعادل 4 أضعاف الحد الأدنى للأجور.
وتتزايد إشارات الاستفهام والتعجب من الوعود التي قطعها الفريق الاقتصادي الحكومي، خاصة بعد ظهور ملامح الجمود ببعض القطاعات وزيادة تكاليف الإنتاج، بعد رفع أسعار الطاقة المتكرر وتراجع سعر الصرف، ما يهدد بكسر جناح الصادرات، التي تعول تركيا عليه، إلى جانب السياحة، بالطيران لحلمها بالدخول إلى نادي العشرة الكبار.
ويرى المحلل التركي علاء الدين شنكولر في زيادة الاحتياطي الأجنبي بالمصرف المركزي "خطوة مهمة على الطريق الصحيح"، معتبراً زيادة الاحتياطي الدرع والسند للحكومة لتتابع خطتها الهادفة إلى تقليص التضخم وتحقيق الرفاه الاجتماعي "ربما نهاية العام المقبل أو بالنصف الأول من عام 2025 وصولاً لتحقيق الخطة الخمسية في عام 2028 ووصول البطالة والتضخم لمستوى الآحاد".
ويشير المحلل التركي إلى أنه ليس من السهولة بمكان تحقيق نتائج سريعة بعد "نسف نهج اقتصادي معتمد" خاصة أن الظروف الموضوعية، الإقليمية والدولية، تأتي كعامل إعاقة إضافي، مؤكداً أن بلاده تسير على الطريق الصحيحة وستحصد النتائج نهاية الخطة.
وفي حين يربط المحلل شنكولر زيادة نسبة التضخم ببلاده بالأسباب العالمية "منذ وباء كورونا ثم الحرب الروسية على أوكرانيا والمفاجآت الاقتصادية تتعاظم، فتراجع نسبة النمو بالصين لهذا العام والجمود الذي يتعاظم بأوروبا أدلة"، يرى خلال تصريحه لـ"العربي الجديد" أن تركيا "تملصت وخرجت من الأزمة بأقل الأضرار رغم كارثة وأعباء الزلزال المدمر مطلع العام".
ولفت إلى زيادة الصادرات عن 254 مليار دولار قبل انقضاء العام الجاري والاتفاقات التي وقعتها بلاده مع دول المنطقة، وهي برأيه إلى جانب السياحة، ستزيد من تسريع الخطة الحكومية الاقتصادية التي تعتمد على رأس المال الخارجي والاستثمارات المباشرة التي بدأت تجذبها تركيا "استثمارات عربية وأوروبية بدأت بالتوطين".
وأظهرت مصادر تركية أن إجمالي احتياطيات البنك المركزي التركي ارتفع بمقدار 6 مليارات دولار الأسبوع الماضي ليبلغ 134.5 مليار دولار، وهو أعلى مستوى منذ سبتمبر/أيلول 2014، في عودة إلى الاتجاه الصعودي بعد أن تبنى البنك سياسة نقدية أكثر تقليدية منذ انتخابات مايو/أيار الماضي.
وبدلت تركيا سياستها النقدية معتمدة التشدد، منذ يونيو/حزيران الماضي عندما عيّن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المصرفية السابقة في وول ستريت حفيظة غاية أركان محافظة للبنك المركزي، ليرتفع سعر الفائدة من 8.5% في مايو الماضي إلى 40% بعد آخر رفع الأسبوع الماضي.
وتأتي خطوات البنك المركزي التركي التي نسفت الخطط التركية ووصايا الرئيس أردوغان بمعاداة الفائدة المرتفعة، ضمن خطة عامة أعلنتها الحكومة التركية، على المدى المتوسط، من شأنها مكافحة التضخم وإعادة هيكلة المؤسسات المملوكة للدولة.
ويأتي النمو المستدام وتقليص عجز الحساب الجاري، وزيادة الاستثمارات، إلى جانب الرفاه الاجتماعي، ومكافحة التضخم كأبرز ملامح الخطة الاقتصادية لإدارة الاقتصاد خلال السنوات الخمس المقبلة، وفق ما أعلن الفريق الاقتصادي التركي المؤلف من وزراء الخزانة والمالية محمد شيمشك، والعمل والضمان الاجتماعي وداد إيشيق هان، والطاقة والموارد الطبيعية ألب أرسلان بيرقدار، والصناعة والتكنولوجيا محمد فاتح قاجير، والزراعة والغابات إبراهيم يومقلي، والتجارة عمر بولات، والنقل والبنية التحتية عبد القادر أورال أوغلو، إلى جانب محافظة المصرف المركزي حفيظة غاية أركان.
ويشكك المحلل التركي يوسف كاتب أغلو بزمن وأهداف الخطة الحكومية الاقتصادية، لأن الأشهر الماضية التي مرت من عمر الحكومة، لم تدلل على ملامح الوصول للأهداف الكبيرة التي تم وضعها أو الإعلان عنها، ملمحاً إلى ضرورة تقييم أداء الفريق الاقتصادي الذي يترأسه نائب رئيس الدولة، جودت يلماظ، منتصف العام المقبل كحد أقصى، بعد زيادة الأجور مطلع العام المقبل، لمعرفة مدى النتائج على الأرض.
ويلفت كاتب أوغلو خلال حديثه لـ"العربي الجديد" إلى أن التعويل على الاستثمارات الخارجية، بعد الامتثال للمعايير الدولية والعودة للتعاطي التقليدي النقدي "هو مجازفة قد لا تحقق النتائج" لأن التبدلات الدولية والمفاجآت التي تنتج عن الحروب، قد تحد من الاستثمارات، رغم ما يسميه "التأسيس السياسي الناجح للعلاقات الاقتصادية، خاصة مع دول المنطقة العربية".
ويخشى كاتب أوغلو من استمرار نزيف سعر العملة التركية التي سجلت اليوم نحو 29 ليرة مقابل الدولار وأكثر من 31.7 ليرة لليورو، لأن تذبذب سعر الصرف يزيد من مخاوف المستثمرين، كما أن عدم الاستقرار المالي واللجوء من جديد، لرفع الضرائب، سياسة تتنافى مع النهج التركي المعتمد منذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة قبل 22 عاماً.
ويلفت المتحدث إلى أن مخاطر الفائدة المرتفعة، أكبر وأخطر على تركيا من آثار الودائع المحمية بالليرة التركية "التي نرى هجوماً مستمراً عليها من الفريق الاقتصادي" لأن الأموال الساخنة التي تأتي تركيا قد تؤثر على استقلالية القرار السياسي تحت عامل الضغط الاقتصادي.
وحول ما جاء بالخطة الاقتصادية من "إعادة هيكلة المؤسسات المملوكة للدولة" وهل المقصود خصخصة بعض الشركات، يقول كاتب أوغلو إن إعادة الهيكلة مستمرة بتركيا، ولكن ليس بالطرق التقليدية للخصخصة، بل بالتشارك مع المستثمرين وحتى المواطنين، عبر طرق تشاركية ومشاريع بعقود حق المنفعة (BOT) أكدت جدواها بعديد من القطاعات.
ويؤكد المحلل التركي أن مقياس أي خطة اقتصادية تمكن رؤيتها من السوق والأسعار ومستوى معيشة المواطن "معدة المستهلك مقياسا محايدا وصادقا"، مشيراً إلى تراجع مستوى المعيشة لدى الأتراك خلال العامين الماضيين "زاد الغلاء والتضخم وتهاوي الليرة بعد خطط الحكومة وبمقدمتها رفع سعر الفائدة".
وهو يأمل في أن تحقق تركيا الخطة الاقتصادية بمكافحة التضخم، وتعزيز أسواق رأس المال ومناخ الاستثمار، وتقليص عجز الحساب الجاري، لضمان تعزيز اقتصاد مستقر وقوي يتحلى بالقدرة على التنبؤ والشفافية، وفق ما وعدت الحكومة.
كما أشار إلى أن الآمال كانت بخفض التضخم إلى 25% نهاية العام الجاري وصولاً لمرتبة الآحاد نهاية عام 2025، ولكن تزيد نسبة التضخم اليوم عن 61% والليرة تتراجع وبالتالي، تزيد معاناة المستهلكين وتنذر بنسف نسبة النمو المرتفعة بعد ملامح الجمود، وخاصة بقطاعي العقارات والسيارات، التي بدأت تظهر بالأسواق التركية.