لو لم تخرج قطر سوى بفائدة واحدة من أزمة الحصار الحالية وهي استقلالية قرارها الاقتصادي لكفاها؛ ولو لم تخرج قطر سوى بميزة التخلص من تبعية ورهن أسواقها بأسواق وسلع ومنتجات دول الحصار لكفاها أيضا.
قبل حصار 5 يونيو/حزيران 2017، كانت الأسواق القطرية تعتمد اعتمادا كاملا على ما يأتيها من السعودية والإمارات. كانت رفوف المحال التجارية والمولات في قطر مليئة بالسلع القادمة من السعودية برّاً عبر منفذ سلوى الحدودي.
وكانت المائدة القطرية تعجّ بمنتجات السعودية المختلفة من ألبان وأجبان وبيض ولحوم ودواجن وعصائر ودقيق وأرز ومعكرونة وسكر وعدس وشاي وزيوت وغيرها.
كانت العقارات والمباني الإدارية والتجارية القطرية يتم تشييدها بالرمل والزلط والإسمنت والدهانات المستوردة من السعودية.
كانت الدوحة تعتمد على المملكة أيضاً في تزويدها بمواد البناء والمواد الخام المطلوبة لتشييد مشروعات كأس العالم من ملاعب وبنية تحتية وفنادق وطرق وغيرها.
تكرّر هذا المشهد مع الإمارات، التي كانت تغرق السوق القطرية بمنتجات كثيرة سواء كانت مصنوعة محلياً أو مستوردة عبر جبل علي وموانئ دبي.
ببساطة، كانت السلع الإماراتية والسعودية تُغرق منازل ومحال ومشروعات ومخازن القطريين. كان المستهلك القطري يلتفت يميناً فيرى سلعاً قادمة له من مصانع وشركات الرياض، وغيرها من المدن السعودية. ويلتفت يساراً، فيجد سلعاً قادمة من الموانئ الإماراتية أو تم شحنها برّاً لتدخل قطر عبر الحدود البرية السعودية. وينظر أمامه فيرى حمولة السكر والدقيق القادمة من الدولتين المجاورتين.
كانت الحياة في قطر تسير هادئة قبل الحصار. بل كان هناك تشجيع قطري على الاستيراد من دول الخليج "الشقيقة"، لأن حجم تجارة يفوق 10 مليارات دولارات سنوياً يجب أن تستفيد منه مصانع وشركات "الأشقاء". ومن المفروض ألا تتدفق هذه الأموال الضخمة على أسواق خارجية، أو تخرج هذه المليارات لمصانع أوروبية وغربية وآسيوية؛ فمصانع الأشقاء أولى بهذه الأموال.
قبل أن يستفيق القطريون على كارثة الحصار البري والبحري والجوي الجائر الذي فرضته السعودية والإمارات مع البحرين ومصر، في شهر كريم يزداد فيه الطلب عادة على السلع والمنتجات وترتفع فيه وتيرة الاستهلاك.
هنا، أدرك القطريون بمرارة، خطورة التبعية الاقتصادية لدول كانوا يعتبرونها في حكم الأشقاء حتى وقت قريب، وخصوصاً أن وسائل إعلام دول الحصار تحدثت عن تعرض القطريين للجوع عقب نفاد السلع الموجودة في المحال التجارية، وأن الرفوف في المحال التجارية خلت تماما من الأغذية واللحوم والألبان والزبادي.
هنا أيضاً، شعر القطريون بخطر ربط أسواقهم ومستهلكيهم كلية بأسواق دول الحصار، خصوصاً مع خروج كتاب سعوديين يتحدثون عن أن معدة القطري "متعودة" على الألبان السعودية، وأنها لن تتعود على ألبان غيرها.
وجد القطريون أن "الأشقاء" حظروا تصدير منتجات الأغذية من أطعمة ولحوم ودواجن وغيرها خلال شهر رمضان الكريم، وأن "الأشقاء" منعوا عنهم مواد البناء من إسمنت ورمال وغيرها، ومن هنا باتت مشروعات البنية التحتية وكأس العالم مهددة؛ وأن "الأشقاء" فرضوا حظراً جوياً شاملاً على بلادهم. وبالتالي، فإن استيراد سلع من الخارج بات مسألة مكلفة ومرهقة وتتطلب وقتاً وجهداً.
في هذا الوقت، أيقن القطريون فجأة وبلا مقدمات أن "الأشقاء" يريدون أن يدفعوا الناس دفعاً نحو الثورة على الحاكم والانقلاب عليه، بحجة أنه لا يوفر لهم أبسط مقومات الحياة وهو الطعام.
هنا.. تحرك صانع القرار القطري في اتجاهين سريعين للتعامل مع هذه الكارثة غير المتوقعة؛ الأول هو تلبية احتياجات الأسواق من أغذية وخضروات وغيرها، وهو ما تم إنجازه وبنجاح شديد في غضون ساعات من وقوع الحصار، حيث عادت السلع المختلفة لتملأ المحال التجارية بمساعدة دول شقيقة وصديقة، منها تركيا والكويت وسلطنة عمان.
والاتجاه الثاني، كان التحرك سريعا نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي؛ وهو ما حققت فيه البلاد نجاحات خلال العام الأول من الحصار، حيث حلت المنتجات القطرية بدلا من السلع السعودية والإماراتية، وباتت معدة القطريين سعيدة بإنتاج مصانع بلادها وتهضم الزبادي المحلي.