بسبب غلاء أسعار الغذاء غير المسبوق في مصر، قلّل أبو عبد الرحمن، وهو موظف على المعاش (متقاعد) في السابعة والخمسين، وأب لولدين، آية أنهت دراستها الجامعية قبل عام، وعبد الرحمن في الصف الثاني الثانوي، عدد مرات شراء اللحوم لمرة واحدة في الشهر، بدلاً من أربع مرات اعتاد على شرائها لسنوات، واكتفى بكيلوغرام واحد فقط لجميع أفراد الأسرة الأربعة بسبب ارتفاع سعرها إلى 350 جنيهاً للكيلوغرام الواحد.
تتحايل زوجته على غلاء اللحم، فتقوم بتقطيع اللحم لقطع صغيرة لتكفي لإعداد وجبتي غداء في يومين مختلفين، كل يوم في أسبوع مختلف، لتنوع في الطعام محدود الخيارات وللاستفادة من شوربة اللحم ونكهته بقدر الإمكان.
تتكلف وجبة غداء اللحم حوالى 220 جنيهاً، عبارة عن 175 جنيهاً ثمن نصف كيلو لحم، و15 جنيهاً ثمن نصف كيلو أرز، و20 جنيهاً تكلفة نصف كيلو بسلة (بازلاء) أو بطاطس وصلصة وبصل وثوم وتوابل، وعشرة جنيهات تكلفة طبق سلطة.
يقول أبو عبد الرحمن إنه خفض كذلك عدد مرات شراء الدجاج لمرة واحدة في الأسبوع، بدلاً من ثلاث مرات في الماضي، بسبب ارتفاع ثمنها إلى 150 جنيهاً، إذ زاد سعر الكيلو إلى 80 جنيهاً.
وتقوم الزوجة بتقسيم الدجاجة إلى أجزاء صغيرة مع الأجنحة حتى تكفي لإعداد وجبتي غداء في يومين مختلفين، كلّ يوم في أسبوع مختلف، كما فعلت مع اللحم.
تتكلف وجبة غداء الدجاج حوالي 120 جنيهاً، عبارة عن 75 جنيهاً ثمن نصف دجاجة، و15 جنيهاً ثمن نصف كيلو أرز، و20 جنيهاً تكلفة نصف كيلو بسلة أو بطاطس وصلصة وبصل وثوم وتوابل، وعشرة جنيهات تكلفة طبق سلطة متوسط للأسرة جميعاً.
وفي بعض الأيام (عشرة أيام تقريباً) يشتري أبو عبد الرحمن أربع بيضات لإعداد وجبة غداء مع البطاطس أو الفاصولياء المطهوة بالصلصة والأرز.
تتكلف الوجبة في هذا اليوم نحو 85 جنيهاً، عبارة عن 20 جنيهاً ثمن أربع بيضات، و30 جنيهاً ثمن كيلو أرز، و25 جنيهاً تكلفة كيلو بسلة أو بطاطس وصلصة وبصل وثوم وتوابل، وعشرة جنيهات تكلفة طبق السلطة.
وتتناول الأسرة وجبة الغداء في بقية أيام الشهر الغداء "أورديحي"، وهي كلمة عامية تعني عدم وجود بروتين من لحم أو دجاج أو سمك أو بيض في وجبة الغداء.
ويتكون الغداء من الأرز أو المكرونة والخضار المطهوة. تتكلف الوجبة الأورديحي حوالى 65 جنيهاً، عبارة عن 30 جنيها ثمن كيلو أرز، و25 جنيها تكلفة كيلو بسلة أو فاصولياء أو بطاطس وصلصة وبصل وثوم وتوابل، وعشرة جنيهات تكلفة طبق السلطة.
يشتري أبو عبد الرحمن الأرز الكسر، بسعر 30 جنيهاً للكيلوغرام، ليوفر خمسة جنيهات، ولا يشتري أرز "الضحى" سليم الحبة لأنّ سعر الأخير وصل إلى 35 جنيهاً للكيلوغرام.
ويفضل الأرز على المكرونة في الغداء ليوفر خمسة جنيهات في الوجبة الواحدة، لأنّ نصف كيلوغرام من الأول يكفي الأسرة في وجبة الغداء، أما المكرونة فتحتاج إلى كيلوغرام كامل بسعر 20 جنيهاً.
أبو عبد الرحمن يكتفي بشراء السمك مرة واحدة في الشهر بسبب الغلاء، ويشتري سمك البلطي فقط لأنه الأرخص، رغم أنه وصل إلى 85 جنيهاً للكيلوغرام.
واستغنى عن شراء سمك الماكريل المستورد الذي يفضله، ليوفر 30 جنيهاً في تكلفة كيلو السمك، إذ وصل سعر الأخير إلى 115 جنيهاً للكيلو.
وتقوم زوجته بشواء البلطي في الردة "نخالة القمح" لتوفير زيت القلي، رغم تفضيل الأولاد للمقلي، بسبب ارتفاع سعر الزيت إلى 70 جنيهاً للتر.
تتكلف وجبة الغداء في هذا اليوم 200 جنيه، هي عبارة عن 2 كيلو سمك بسعر 170 جنيهاً، ونصف كيلو أرز بسعر 15 جنيهاً، وطبق سلطة بعشرة جنيهات.
وجبة إفطار أسرة أبو عبد الرحمن تتكلف 70 جنيهاً في المتوسط، عبارة عن 10 جنيهات تكلفة طبقي فول مدمس، بيتي، تقوم الزوجة "بتدميسه" في البيت ولا تشتريه من المطعم حتى توفر نصف التكلفة تقريباً، و10 جنيهات ثمن الفلافل المجهزة في البيت أيضاً، و10 جنيهات ثمن بطاطس مقلية في البيت، و20 جنيهاً ثمن أربع بيضات، و10 جنيهات سلطة خضروات، و10 جنيهات شاي بالحليب.
وتزيد إلى 90 جنيهاً إذا استبدل الجبنة القريش، نصف كيلو، بالبيض. أما وجبة العشاء فتكون خفيفة، وتكلف تقريباً نصف وجبة الإفطار في الكمية والتكلفة.
وبذلك تنفق أسرة أبو عبد الرحمن حوالى 5700 جنيه (184 دولاراً) في المتوسط، على الطعام فقط خلال الشهر.
يقول أبو عبد الرحمن إنه يضطر لشراء الطماطم "تعبئة" من دون "انتقاء"، إذ يقوم البائع بتعبئة الطماطم الجامدة والطرية والمجروحة والحمراء والباهتة معاً من دون استبعاد للثمار التالفة، حتى لا يدفع أربعة جنيهات إضافية في الكيلوغرام إذا انتقى الثمار الجيدة فقط.
وفي البيت تفرز زوجته الطماطم الجامدة وتخصصها للسلطة، وتغسل الطرية والمعطوبة وتقطعها وتستبعد الأجزاء التالفة فقط، ثم تعالجها في الخلاط وتصفيها ثم تغليها على البوتاغاز وتستخدمها "صلصة" في طهو الخضروات.
يحكي أبو عبد الرحمن مأساته وأسرته مع وزارة التموين بعد حذفه من منظومة البطاقات التموينية، فيقول إنه اشترى سيارة مستعملة ماركة فيات 127 في سنة 2010.
ولكثرة أعطالها وعجزه عن دفع تكاليف إصلاحها قام ببيعها. ثم اشترى سيارة أخرى مستعملة في سنة 2015، بنفس مواصفات السابقة ولكن أفضل حالاً منها.
وبسبب زيادة سعر البنزين وأعباء المعيشة قرر بيعها. بعد مدة وجيزة فوجئ بحذفه من منظومة البطاقات التموينية، فلما سأل البقال التمويني عن السبب أخبره أنّه يمتلك سيارتين.
يتقاضى أبو عبد الرحمن معاشاً شهرياً 2200 جنيه. وتتقاضى زوجته 4300 جنيه، بإجمالي 6700 جنيه (216 دولاراً) ينفق منها على تكلفة الطعام السابقة، ويتبقى حوالي 1000 جنيه. ينفق منها 170 جنيهاً على فاتورة الكهرباء والتي زادت إلى 375 جنيها قبل 4 شهور، 100 جنيه لفاتورة الغاز، كانت 35 جنيها قبل شهور أيضا.
بالإضافة إلى 165 جنيها لفاتورة التليفون والإنترنت، ويتبقى 200 جنيه تقريبا للطوارئ. قرر مرة أن يشتري فاكهة، ذهب إلى أحد المحلات يقدم عروضا دورية واشترى كيلو جوافة بسعر 25 جنيها للكيلو بدلا من 30 جنيها.
يقول أبو عبد الرحمن إنه أحسن حظا من غيره من أرباب الأسر، حيث استطاع شراء شقة في الماضي ولا يدفع إيجارا للسكن، ولا مواصلات ودروسا خصوصية لابنته التي أنهت دراستها.
ولكنه يأسف لتأجيله زواج ابنته آية المخطوبة منذ سنتين، لأنه لا يستطيع شراء باقي أدوات المطبخ في ظل غلاء المعيشة الذي لم يشهده حتى في أيام الرئيس المخلوع حسني مبارك.
يبين تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن بحث الدخل والإنفاق، والذي يتم إجراؤه كل عامين ليوفر البيانات التي تمكن من قياس مستويات المعيشة وتحديد خطوط الفقر، والتي يعتمد عليها متخذو القرار في وضع برامج الحماية الاجتماعية، أن متوسط الإنفاق السنوي للأسرة المصرية على الطعام في آخر إحصاء عام 2021 بلغ 19 ألفا و229 جنيها، ما يعادل 1602 جنيه شهريا،(102 دولار)، يوازي 3165 جنيها حاليا.
وهو ما يقارب الحد الأدنى لأجور العاملين في الدولة الذي رفعته الحكومة في شهر أبريل/نيسان الماضي إلى 3500 جنيه (113.45 دولارا) ويزيد عن الحد الأدنى لأجور العاملين بالقطاع الخاص، والذي رفعه المجلس القومي للأجور في شهر يوليو الماضي إلى 3000 جنيه (97.4 دولارا)، ما يكشف عن حجم المعاناة التي يتكبدها رب الأسرة المصرية لتدبير الطعام، حيث تضاعفت تكلفة المعيشة خلال مدة وجيزة، وفي نفس الوقت انخفضت كمية ونوعية الطعام التي تستهلكها الأسرة بنسبة كبيرة.
قد يكون أبو عبد الرحمن أحسن حظا من رب أسرة يحكي معاناته في رسالة على "فيسبوك" يقول فيها إنه يعول زوجته وولدين، ويتقاضى 2300 جنيه راتبا شهريا.
يشتري لكل فرد رغيف خبز بجنيه وبيضة واحدة بخمسة جنيهات في الوجبات الثلاث، بما يعادل 360 جنيها للخبز، و1800 جنيه للبيض في الشهر، بإجمالي 2160 جنيها، دون حساب تكلفة الملح وغاز الطهو المستخدم في سلق البيض، وفقا لرسالته.
وآخر يقول إن راتبه الذي كان يتقاضاه قبل ست سنوات هو 2000 جنيه وكانت تكفيه وأولاده الأربعة. أما الآن فراتبه لا يكفي طعامه وأولاده رغم أن الراتب وصل إلى 5500 جنيه في الشهر بسبب الغلاء.
وتستمر معاناة الأسرة المصرية في ظل مواصلة معدل التضخم السنوي ارتفاعه غير المسبوق خلال يوليو 2023 مسجلا 38.2%، مقابل 14.6% لنفس الشهر من العام السابق، بحسب بيان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، الجهة الحكومية الوحيدة لحساب نسب التضخم، وأرجع جهاز الإحصاء ارتفاع معدل التضخم الشهري والسنوي إلى زيادة أسعار السلع الغذائية بنسبة.
وأثبت البيان ارتفاع أسعار الطعام هذا الشهر بنسبة 68.2%، بالمقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، وأسعار الخبز بنسبة 55.7%، واللحوم والدواجن بنسبة 93.4%، والأسماك بنسبة 83%، والبيض والألبان والجبن بنسبة 64.7%، وزيوت الطعام بنسبة 30%، والخضروات بنسبة 82%، والسكر بنسبة 38%، والشاي بنسبة 76%.
ما يزيد معاناة الأسرة المصرية، تراجع القوة الشرائية للجنيه بعد أن خفضت الحكومة سعر صرف الجنيه ثلاث مرات متتالية في فترة زمنية وجيزة.
فمنذ مارس/ آذار 2022، خفضت قيمة الجنيه من 15.7 للدولار، إلى 30.9 جنيهًا حاليا، وفق السعر الرسمي في البنك المركزي، في حين يتم تداول الدولار في السوق السوداء بما يفوق 40 جنيهًا.
وأدى ذلك إلى ارتفاع معدلات الفقر في مصر، حيث تفيد البيانات الرسمية بأن معدل الفقر بلغ نحو 30% من السكان في الفترة من 2019-2020، بينما تكشف بيانات البنك الدولي عن أن معدل الفقر ارتفع منذ ذلك الحين إلى نحو 60% الآن.
في الربع الأخير من العام الماضي، كشفت دراسة للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عن أن 90% من الأسر المصرية قللت استهلاكها من الطعام بكل أنواعه، وأن 94% من الأسر قلصت استهلاكها من اللحوم والدواجن، و92.5% من الأسر قللت استهلاكها من الأسماك، و75% من الأسر قللت استهلاكها من الأرز والبيض وزيت الطعام والفاكهة، ما يكشف عن معاناة حقيقية للأسرة في تدبير حاجات الطعام منذ شهور.
في يناير الماضي، كشف تقرير البنك الدولي عن الأمن الغذائي عن أن مصر تحتل المرتبة السادسة بين أكثر دول العالم زيادة في غلاء أسعار السلع الغذائية خلال عام 2022 بتحقيقها معدل 37.3% تضخم في أسعار السلع الغذائية.
وتوقع التقرير استمرار ارتفاع نسب التضخم في أسعار الغذاء خلال العام الحالي بسبب تراجع قيمة الجنيه، وهو ما أكدته بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الشهرية حتى الآن.
ما لا يبشر بانتهاء معاناة الأسرة المصرية، أن النظام الحاكم لا يعترف بفشل السياسات الاقتصادية، وغياب الرؤية الصحيحة نحو أولويات المشاريع القومية التي يجب أن توجه للتصنيع ولإنتاج الغذاء محليا وتوفر فرص عمل للشباب العاطلين.
ويلقي بمسؤولية الغلاء وارتفاع أسعار الغذاء على العوامل الخارجية مثل كورونا والحرب في أوكرانيا.
يقول الجنرال عبد الفتاح السيسي، إنّ عاماً انقضى منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وإنّ آثار الحرب انعكست بقوة على الاقتصاد الدولي، الذي لم يتعافَ من الآثار التي تسببت فيها جائحة كورونا، وإنّ مصر تأثرت سلباً بتلك الآثار، وتسببت الحرب في ارتفاعات قياسية بأسعار الطاقة والغذاء على مستوى العالم.