بعد يوم طويل من العمل الشاق، ومتابعة الأحداث، ومحاولات تجنب التفاعل الفاشلة، عدت إلى المنزل وارتميت على أقرب أريكة، ومددت ساقاي، في انتظار موعد العشاء، قبل أن يغلبني النعاس وأنطلق في حلم طويل، ما زلت أذكر كل تفاصيله.
رأيت في ما يرى النائم أنه تم تكليفي برئاسة البنك المركزي المصري، في مرحلة قيل لي إنها عصيبة، حيث تتسابق المؤسسات الدولية الكبرى على تحذير مصر من مغبة التأخير في "تخفيض قيمة الجنيه"، بينما تبادر مؤسسات التقييم وبعض المؤسسات المالية الأخرى إلى تخفيض التصنيف الائتماني للديون المصرية.
فور وصولي لمكتبي، اكتشفت أن عندي سكرتيرتين، فنقلت الأولي إلى وظيفة أخرى، واكتفيت بالثانية، ثم طلبت منها أن تحجز لي تذكرة سفر إلى مدينة مراكش المغربية، لحضور اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين، على خطوط مصر للطيران، وأن تكون على الدرجة السياحية "إيكونومي"، نظراً للظروف المالية والاقتصادية التي تمر بها البلاد.
قلت في نفسي لا يحق لي أن أسافر "بيزنس أو درجة أولى" بينما يوجد في مصر من لا يملكون خمسين جنيهاً يشترون بها وجبة الإفطار لأطفالهم، وخاصة أن أغلب الظن هو أن جهة عملي كان لها دور كبير في ما وصلت إليه الأمور.
في مطار مراكش، تزامن وصولي مع وصول كريستالينا غورغييفا، مديرة صندوق النقد الدولي، التي حذرت مصر، الخميس الماضي، من استنزاف احتياطياتها الثمينة من النقد الأجنبي ما لم تخفض قيمة عملتها مرة أخرى.
سألتها يا كريستالينا ... لماذا فعلت ذلك؟ ومنذ متى يقوم مسؤول بحجمك وتأثيرك بإطلاق مثل هذه التصريحات؟ قلت لها إنه أمر مؤسف إن كانت تدرك حجم التأثير الذي يمكن أن تحدثه تصريحاتها، وإنه يكون كارثياً إن كانت لا تدرك حجم هذا التأثير.
قبل أن أنهي كلامي معها، انضم إلينا فريد بلحاج، نائب رئيس البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والذي حث، يوم الإثنين، الحكومة المصرية على تعويم الجنيه المصري مرة أخرى، باعتبارها خطوة ضرورية لتخفيف الضغط على الاقتصاد المصري!
كررت عليه الأسئلة نفسها، فكانت إجابته وإجابتها أن هذا أمر لا مفر منه، وأن التأخر في تنفيذه يزيد من سلبياته، بينما يمكن أن يساعد التعجيل به في حل الأزمة!
قلت لهما إن هذا غير صحيح، وإن أي تخفيض أو تعويم جديد للجنيه المصري سيكون عديم الفائدة، تماماً كما كانت التخفيضات السابقة، لو لم يكن لدينا "بضع مليارات من الدولارات" لضخها في السوق عند التعويم، حتى نتمكن من مقابلة طلبات شراء الدولار المعلقة، ونتجنب انهيار الجنيه.
قلت لهما إن الظروف اختلفت عما كانت عليه عند اتفاقنا على قرض مليارات الدولارات الثلاثة، حيث تجاوزنا سعر ثلاثين جنيهاً للدولار الذي كانا وفريقاهما يطلبان الوصول إليه في بداية العام الماضي، وكان السعر وقتها 15.75 جنيها للدولار، ولم تتوقف طلبات شراء الدولار، ولم تتقدم الدول الخليجية لشراء الشركات المعروضة للبيع، ولا حتى عادت الأموال الساخنة، وبالتأكيد كان كل هذا جزءاً من الاتفاق.
قلت لهما إن الأوضاع تغيرت كثيراً عما كانت عليه عند الاتفاق، حيث فقد الجنيه المصري ما يقرب من 50% من قيمته، وارتفعت عوائد أذون وسندات الخزانة بأكثر من 10%، وخسرت السندات الدولارية أكثر من 30% من قيمتها، وما زالت السعودية والإمارات تطلبان المزيد من التخفيض في قيمة الجنيه، وبالتالي قيمة الأصول المصرية المباعة، بينما تتراجع دخول، ومدخرات، ومستويات معيشة ملايين المصريين، إلا نسبة قليلة منهم، ممن أمنوا أنفسهم بحسابات دولارية خارج البلاد، فساهموا في تفاقم الأزمة على إخوانهم، ثم تركتهما دون انتظار لرد.
ذهبت إلى الفندق الذي تقام فيه فعاليات المؤتمر، وعند وصولي وجدت ممثلين لكل المؤسسات المالية التي حذرت من الاقتصاد المصري، وخفضت التصنيف الائتماني، وتوقعت، بل وطلبت أحيانا، تخفيض الجنيه، على مدار الأسابيع الأخيرة. كنت أعرف في قرارة نفسي أنه لا يحق لي توجيه اللوم لهم، وإنما اللوم كله على ما كان بيده زمام الأمور، ولديه كل الصلاحيات، فوصل بنا إلى هذه النقطة.
في هذه اللحظة أدركت أنه لا توجد حاجة لي لحضور المؤتمر، فطلبت سيارة أنتقل بها إلى المطار، ومن هناك ركبت أول طائرة عائدة إلى مصر، واتجهت فوراً إلى مكتبي، ومن هناك اتخذت عدة قرارات، كانت كالتالي:
أولاً، إلغاء الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وثانياً، إصدار تعليمات للبنوك بعدم تحويل دولار واحد خارج البلاد إلا لاستيراد القمح، وبعض الأدوية التي لا يوجد بديل لها في السوق المصرية، مع إيقاف كافة أنواع التعامل الخارجية لكل البطاقات التي تصدرها البنوك لعملائها، سواء كانت بطاقات خصم، أو ائتمان، أو مدفوعة مقدماً، ومنع بيع الدولار لأي مسافر خارج البلاد.
بعد ذلك تقدمت باعتذار للشعب المصري عن فترة ستستمر عامين على أسوأ تقدير، لكنها ستشهد غياب بعض السلع المستوردة، وتعذر السفر، وربما عدم توفر السلع الوسيطة، وتوقف عمليات الشراء عبر الإنترنت. فلا يصح أن يكون البلد على وشك التخلف عن سداد ما عليه من التزامات وديون خارجية، بينما البعض يسافر لقضاء إجازته في تركيا أو لبنان أو دبي، والبعض الآخر يتسابق لشراء الهواتف الذكية فور نزولها في أسواق أوروبا وأميركا، أو يركب سيارة يتجاوز سعرها خمسة ملايين جنيه، بينما عمليات التهريب للعملة الأجنبية مستمرة على قدم وساق.
هذه هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ البلد من المصير اللبناني، وعلى من لا يجد سلعة وسيطة أن يصنعها، ومن يريد أن يرسل أبناءه للدراسة أن يقدم شهادة أن لديه قيمة المصروفات كاملة بالعملة الأجنبية، ومن يرغب في السفر للخارج، لتعليم أو فسحة أو علاج، وزيراً كان أو غفيراً، أن يتكفل بمصاريفه كاملة، حتى تعود البلاد إلى طريقها الصحيح.
فعلت كل هذا قبل أن أشعر بيد توقظني، وتقول لي إن العشاء جاهز!