استمع إلى الملخص
- **التعاون الزراعي بين مصر وإسرائيل**: شهد التعاون الزراعي تطوراً ملحوظاً، حيث شمل برامج تدريبية وتمويل مشترك، وأدى إلى إدخال أصناف جديدة من الفاكهة والخضروات في الزراعة المصرية.
- **التداعيات السلبية للتطبيع الزراعي**: تعرض وزير الزراعة يوسف والي لانتقادات بسبب تراجع إنتاجية المحاصيل الاستراتيجية وزيادة الاعتماد على الواردات، وانتشار الآفات النباتية في الأراضي المصرية.
بعد أربع حروب بين مصر وإسرائيل، انخرط رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن مع الرئيس المصري أنور السادات في مفاوضات سرية بهدف التوصل إلى حل سلمي للصراع الدائر بين بلديهما. وتطورت المبادرات إلى مفاوضات برعاية الولايات المتحدة أدت إلى ابرام اتفاقية كامب ديفيد للسلام عام 1979. ودعت الاتفاقية إلى التطبيع في العلاقات بين مصر وإسرائيل من خلال التعاون الثنائي في التجارة والثقافة والعلوم برعاية أميركية.
وبعد أن خفتت حدة الحماسة العفوية الأولى، بدأت قطاعات من المجتمع المصري، وخصوصاً المجتمع الفكري، بمعارضة معاهدة السلام، ما يؤكد أن قرار التوصل إلى اتفاقية سلام مع إسرائيل كان قراراً شخصياً للرئيس السادات. وعلى الرغم من احترام الاتفاقية رسمياً من قبل الحكومتين، إلا أن العلاقة بينهما ظلت رسمية في الغالب وعلى المستوى الحكومي فقط.
وأظهرت النقابات المهنية المصرية معارضة شديدة لمعاهدة السلام. ومنعت نقابة الأطباء المصرية وغيرها من نقابات المحامين والصحافيين والكتّاب وغيرها، ولا تزال تمنع، التعاون مع دولة الاحتلال أو السفر إليها. وحتى اليوم، يظل المهنيون المصريون الذين لا يلتزمون هذا الحظر عرضة للهجوم، ولا تزال الجامعات المصرية تحتفظ بمشاعر قوية معادية للسلام و/أو معادية لإسرائيل.
ورغم أن مصر أوفت بوعدها بتوريد النفط والغاز من سيناء إلى إسرائيل بنحو شبه مجاني، فإن اتفاقية السلام لم تجلب سوى قدر محدود من التجارة، ولا تزال السياحة غير متكافئة إلى حد كبير، حيث يزور مصر عدد أكبر بكثير من الإسرائيليين مقارنة بالعكس. ومع ذلك، أدى التعاون الإسرائيلي المصري في مجال الزراعة على وجه الخصوص إلى محاولة لكسر جليد هذا "السلام البارد"، وخلق علاقة ناجحة من التطبيع بين البلدين، وذلك برعاية وزيري الزراعة، المصري مصطفى داوود، والإسرائيلي أرئيل شارون.
الترويج للتطبيع الزراعي
روجت الحكومة الإسرائيلية بين الأكاديميين المصريين أن الزراعة في إسرائيل بدأت مع موجة الاستيطان اليهودي في أواخر القرن التاسع عشر. فقد نظمت الوكالة اليهودية مركزاً للأبحاث الزراعية في عشرينيات القرن العشرين، وتأسست كلية الزراعة في الجامعة العبرية في أربعينيات القرن العشرين. وتزعم أن إسرائيل تمتلك نظاماً زراعياً حديثاً يعتمد على الميكنة والعلم إلى حد كبير، ويقوم بقدر كبير على البحوث الزراعية المتخصصة في تربية نباتات المحاصيل عالية الغلة التي تتكيف مع الظروف شبه الصحراوية والتي يمكن نقلها إلى مصر.
وخلال سنوات قليلة، شمل التعاون الزراعي بين البلدين برنامجاً تدريبياً ضخماً لآلاف المهندسين الزراعيين المصريين في دولة الاحتلال. وعلى النقيض من العلاقات الباردة التي سادت في مجالات أخرى من التعاون، فقد وقعت وزارتا الزراعة، المصرية والإسرائيلية، مذكرة تفاهم في وقت مبكر من عام 1980، وتبع ذلك عدة مذكرات تفاهم إضافية.
وكان السادات نفسه هو الذي بادر وشجع التعاون بين دولة الاحتلال ومصر في القضايا الزراعية. وكان هو أول من وافق على زيارة أحد المهندسين الزراعيين المصريين، واسمه ناصف أبو ندا، إسرائيل، وطلب شخصياً من رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، في أثناء زيارته الأولى لمصر، مساعدة إسرائيل في إنشاء مزرعة حديثة في قرية السادات ومسقط رأسه في ميت أبو الكوم.
وشارك وزير الزراعة المصري شخصياً في هذا البرنامج التعاوني على أساس يومي تقريباً. ويجري تنسيق المشاركة الإسرائيلية من قبل مدير المكتب الزراعي المشترك بين مصر وإسرائيل التابع لوزارة الزراعة الإسرائيلية. وشارك الآلاف من العلماء والمهندسين الزراعيين والطلاب المصريين والإسرائيليين في التعاون الزراعي بدعم مالي أميركي.
وبالإضافة إلى أموال المعونة الأميركية، تلقى التعاون الزراعي بين البلدين أموالاً من مؤسسة جائزة ألبرت أينشتاين للسلام بشيكاغو، والحكومتين الهولندية والدنماركية. وتدعم هذه الأموال المزارع التجريبية المشتركة بطريقة سرية حتى لا يهاجمها المصريون.
وأنشأت مصر الهيئة العامة للإنتاج الزراعي، للتعاون الزراعي مع شركة أجريديف الإسرائيلية التي أنشأت مزرعة نموذجية في محطة بحوث الجميزة في منطقة الدلتا، لإدخال أصناف الفاكهة والخضروات الإسرائيلية في الزراعة المصرية.
التطبيع لأهداف خبيثة
تعرّض يوسف والي، وزير الزراعة في عهد حسني مبارك ومهندس التطبيع مع إسرائيل، للاستجواب تحت قبة البرلمان بسبب التطبيع الإسرائيلي في مجال الزراعة، واستقدام خبراء زراعيين إسرائيليين للعمل في مشاريع بحثية بمركز البحوث الزراعية المصري، وإيفاده أكثر من ألفين من الباحثين الزراعيين المصريين إلى إسرائيل في مهمات تدريبية طويلة.
لم ينكر والي كلام النواب، وبرر هذه السياسة بأن مصر هي التي تستفيد من التكنولوجيا الزراعية الإسرائيلية المتقدمة في تحديث الزراعة المصرية. وقال إن خبراء الزراعة الإسرائيليين نقلوا تكنولوجيا زراعة الكاكي وتفاح الآنا والموز الوليامز الطويل والعنب من إسرائيل إلى مصر، وإن هذه الفاكهة انتشرت زراعتها في محافظة الغربية. مع العلم أن محافظة الغربية هي مركز دلتا مصر، وزراعة الفاكهة في أراضي الدلتا المحدودة التي تكونت عبر ملايين السنين من الغرين (الطمي) الذي تحمله مياه النيل عبر آلاف الكيلومترات من الهضبة الحبشية والتي لا يمكن تعويضها أو تجديدها هي جريمة سياسية واقتصادية. ذلك أن أراضي الدلتا طينية، تكثر زراعة محاصيل الحبوب فيها، وتزيد إنتاجيتها من القمح والذرة والأرز أكثر من الأراضي الصحراوية. أما الفاكهة، فتكثر زراعتها في الأراضي الرملية الخفيفة والمستصلحة في صحراء مصر الواسعة. وبهذه السياسة المقلوبة، تراجعت إنتاجية الفاكهة في أراضي الدلتا، وتراجعت إنتاجية المحاصيل في الأراضي الرملية.
وكانت النتيجة تدمير الأمن الغذائي المصري، واعتماد مصر على الولايات المتحدة في توفير القمح اللازم لصناعة الخبز والذرة وفول الصويا، وتدخل الأخيرة في رسم السياسة المصرية داخلياً ومع جيرانها في الخليج وفلسطين وإسرائيل.
وفشل والي في الرد على تداعيات التطبيع الزراعي مع إسرائيل من خراب وكوارث على الزراعة المصرية التي كانت قاطرة الاقتصاد المصري، من تراجع إنتاج القمح والذرة والقطن المصري فائق الطول، وإغراق الزراعات المصرية بالمبيدات الإسرائيلية المسرطنة.
ومنذ بداية الثمانينيات وحتى إبعاده عن الوزارة في سنة 2004 بسبب فضيحة المبيدات المسرطنة، أفسح والي خلال 23 سنة المجال لزراعة المحاصيل الهامشية، من التفاح والعنب والخوخ وبطيخ اللب التسالي والفراولة والكنتالوب الإسرائيلي، في الأراضي الزراعية القديمة والمستصلحة حديثاً، على حساب المحاصيل الاستراتيجية، القمح والذرة والقطن، حتى أصبحت مصر أكبر مستورد للقمح في العالم وثالث أكبر مستورد للذرة.
وبالموت البطيء، دُمِّرَت ثروة مصر الزراعية من القطن طويل التيلة بواسطة دودة لوز القطن القرنفلية التي أدخلت إلى مصر في هذه البيئة السياسية الفاسدة، والقضاء على أشجار نخيل البلح بواسطة سوسة النخيل، وتدمير نحل العسل، الذي يلعب دوراً رئيساً في تلقيح المحاصيل وزيادة الإنتاجية الزراعية بجانب إنتاجه من العسل، بإدخال حشرة الفارو للمناحل المنتشرة في المحافظات. وأثبت أساتذة متخصصون في وقاية النباتات وعلوم الحشرات أن إسرائيل هي مصدر تلك الآفات.
نموذج من الباحثين الإسرائيليين
بصفة خبراء في الزراعة، استقدم يوسف والي إسرائيليين للعمل في مشاريع بحثية في محطة بحوث الجميزة بمحافظة الغربية شمالي مصر، ومحطة بحوث غرب النوبارية ومشتهر بالقليوبية. ومن هؤلاء الخبراء، أقام الخبير الإسرائيلي عوفاديا كيدار في محطة الجميزة تحت حراسة الشرطة الدائمة، وكان سكنه بجوار نقطة شرطة الجميزة. وأخبرني أحد الباحثين الذين عملوا في تلك المحطة أن عوفاديا كان يسمي نفسه عبد الله ليستعطف الباحثين المصريين ويتمكن من النجاح في مهمته.
وتذكر تقارير وزارة الزراعة الأميركية التي ترعى علاقات التعاون الزراعي بين إسرائيل ومصر، أن عوفاديا كيدار خبير زراعي مقيم في محطة بحوث الجميزة ويعمل مستشاراً لمدير محطة البحوث في ذلك التوقيت، 1985. يعرّف عوفاديا كيدار نفسه بأنه يهودي مصري ولد في مصر سنة 1941، وهاجر إلى إسرائيل سنة 1957 وعمره 16 سنة مع عائلته التي تنتمي إلى اليهود القرائيين، ودرس في مدرسة "إيشيل هاناسي" الزراعية، وهي مدرسة للتعليم المتوسط.
وخدم عوفاديا في الجيش الإسرائيلي وحارب في صفوفه ضد مصر، وقام بعمليات استخبارية. وبعد حرب 1967، استقر مع أسرته في مستوطنة زراعية في شمال سيناء، وبعد معاهدة السلام مع مصر انتقل للعيش في مستوطنة في غزة. وبعد تدشين يوسف والي العلاقات مع إسرائيل، يقول عوفاديا عن تلك الفترة إنه كان منغمساً في العمل في الزراعة والاستشارات الزراعية مكلفاً بمهمة لدولة إسرائيل في مصر.
يذكر أن الآفات النباتية والحشرات والقوارض والثعابين السامة انتشرت بشدة في محطة البحوث الزراعية تلك والقرى المحيطة بها منذ حلّ عوفاديا بها ولعدة سنوات تالية. وبعد انتهاء مهمته في مصر، عاد عوفاديا إلى إسرائيل وعاش في عسقلان وتفرغ للرسم والفن، ولم يعمل في البحوث الزراعية هناك، كذلك فإنه لم يكن باحثاً زراعياً في يوم من الأيام. فهل يعقل أن يكون خريج مدرسة متوسطة للزراعة خبيراً زراعياً، وهو لم يحصل على الماجستير ولا الدكتوراه، وإن زعم أنه واصل دراسته في كلية الزراعة في الجامعة العبرية، وهل كانت مهمته الأصلية هي البحث العلمي؟!