حمّل الإعلام المصري، وقبله كبار المسؤولين في الدولة، حرب أوكرانيا ما لا تطيق، وألصق بها المسؤولية الكاملة عن كل الأزمات العنيفة التي يمر بها الاقتصاد المصري منذ شهر فبراير/ شباط 2022، أو حتى التي مر بها خلال السنوات الأخيرة ولم يعترف الإعلام أصلاً بها، بل وحولها إلى إنجازات غير مسبوقة حسب وصفه.
فالحرب، حسب هؤلاء، هي التي مسحت المكاسب الهائلة التي حققها الاقتصاد المصري خلال سنوات تطبيق برنامج الإصلاح في الفترة من (2016-2021). بل وألحقت بالاقتصاد خسائر تقدر بمليارات الدولارات.
فقبل مرور 3 شهور على اندلاع حرب روسيا على أوكرانيا وتحديا في 15 مايو 2022 خرج علينا رئيس الوزراء مصطفى مدبولي بتقديرات حكومته لتكلفة الأثر المباشر للحرب على الموازنة المصرية قائلا إنها تقدر بـ130 مليار جنيه ( أي 7.1 مليار دولار بأسعار صرف ذلك التوقيت) سنويًّا، إلى جانب 335 مليار جنيه (18.3 مليار دولار) من الآثار غير المباشرة، أي أن اجمالي الخسائر 464 مليار جنيه، أي ما يقرب من 25.3 مليار دولار.
الحرب تسببت في خسائر فادحة للاقتصاد المصري وهروب 22 مليار دولار من الأموال الساخنة ومعها الاستثمارات الأجنبية
والحرب تسببت، وفق تصريحات كبار المسؤولين ووسائل الإعلام المختلفة، في هروب 22 مليار دولار من الأموال الساخنة ومعها الاستثمارات الأجنبية الموجودة في مصر. والحرب مسؤولة مباشرة عن أزمة العملة العنيفة وشح الدولار، وبالتالي عن تعويم الجنيه المصري 3 مرات في أقل من عام.
والحرب مسؤولة عن جفاف قطاع السياحة الحيوي وتهاوي إيراداته من النقد الأجنبي، وهي أيضاً مسؤولة عن قفزات الأسعار العنيفة التي تشهدها الأسواق، وعن زيادة التضخم لأعلى مستوى في 5 سنوات.
وكذا عن حدوث عجز هائل وغير مسبوق في الموازنة العامة، وتفاقم الدين العام، وتراجع الإيرادات الدولارية، وزيادة كلفة الاقتراض الخارجي، وزيادة فاتورة الواردات، خاصة من السلع الغذائية، قمح وذرة وزيوت وشعير وأرز، ومن المشتقات البترولية، بنزين وسولار وغاز طبيعي.
وحرب أوكرانيا تسببت، وفق الإعلام، في انهيار القدرة الشرائية للمصريين ونزوح السيولة من جيوبهم وتهاوي المدخرات وعودة السوق السوداء للعملة وتنامي ظاهرة الدولرة، أي اكتناز النقد الأجنبي والدولار على حساب العملة المحلية، وتفاقم أزمة البطالة وتفشي الفقر المدقع، وانهيار الطبقة الوسطى، وركود الأسواق مع حدوث انخفاض حاد في عمليات الشراء حيث انخفض استهلاك نحو 74% من الأسر من السلع الغذائية، وقلّ استهلاك نحو 90% من الأسر من البروتينات.
ببساطة، فإن حرب أوكرانيا، ووفق وسائل الإعلام، أفقرت المصريين، وتسببت في انهيار الطبقة الوسطى، وتسببت أيضا في حدوث موجة غلاء غير مسبوقة في الأسواق، وعرقلت خطة الإصلاح الاقتصادي، ودفعت الحكومة نحو العودة للاقتراض الخارجي، وهذا كلام مردود عليه، والكثير منه مغلوط.
ما لم يقله المسؤولون ووسائل الإعلام إن أزمة الاقتصاد سابقة على حرب أوكرانيا، فإغراق البلاد في ديون خارجية قياسية بدأ في 2016
فما لم يقله المسؤولون ووسائل الإعلام إن أزمة الاقتصاد المصري سابقة على حرب أوكرانيا، فإغراق البلاد في ديون خارجية قياسية بدأ في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 مع توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي وليس في فبراير 2022 موعد اندلاع الحرب.
وأزمة العملة الحقيقية بدأت مع المشاكل التي واجهت السياحة في الفترة من 2013 إلى 2016، ثم خلال أزمة كورونا، وتعمقت الأزمة مع سياسة التوسع في الاقتراض الخارجي واغتراف نحو 130 مليار دولار من القروض خلال سنوات معدودة.
وقفزات الأسعار لم تبدأ مع حرب أوكرانيا، بل بدأت بتجاهل الحكومة قطاعات حيوية مثل الزراعة والإنتاج والصناعة والتصدير، والاهتمام بقطاع واحد هو البنية التحتية من كباري وجسور ومدن عمرانية، كما غذت ارتفاعات الأسعار سياسة خفض الحكومة الدعم المقدم لسلع أساسية منها السلع الغذائية والتموينية والبنزين والسولار والغاز، وزيادة كلفة المواصلات العامة والرسوم الحكومية والضرائب، وخفض قيمة العملة عدة مرات، وهو ما رفع كلفة السلع المستوردة.
وحرب أوكرانيا ليست مسؤولة عن ضخ نحو 100 مليار دولار في مشروعات لا تمثل أولوية للمواطن وأسبقية للاقتصاد، بل كان يمكن تأجيلها دون التسبب في أضرار فادحة للبلاد، منها نحو 58 مليار دولار في العاصمة الإدارية الجديدة و8 مليارات في تفريعة قناة السويس، ونحو 30 مليار دولار لإطلاق قطار كهربائي فاخر، وغيرها من المشروعات الكبرى التي تُقام بقروض دولارية في دولة لديها عجز مزمن في الميزان التجاري يبلغ نحو 30 مليار دولار سنوياً وفجوة تمويلية ضخمة وهروب للاستثمارات الأجنبية.
حرب أوكرانيا ليست مسؤولة عن ضخ نحو 100 مليار دولار في مشروعات لا تمثل أولوية للمواطن وأسبقية للاقتصاد، بل كان يمكن تأجيلها
وحرب أوكرانيا ليست مسؤولة عن إهدار المال العام، أو على الأقل إساءة استخدامه في شراء طائرات وإقامة مدن عمرانية ومقار للحكومة والوزارات في الساحل الشمالي والعاصمة الإدارية وتشييد قطار للأغنياء.
نعم حرب أوكرانيا أثرت سلباً على الاقتصاد المصري، خاصة على قطاعي السياحة والاستثمارات الخارجية، ورفعت كلفة الواردات الغذائية من روسيا وأوكرانيا، خاصة أسعار القمح، لكن أسعار الأغذية تراجعت بعد ذلك عقب سماح روسيا لأوكرانيا بتصدير الحبوب بضمان تركيا والأمم المتحدة.
الإعلام يحاول أن يصور للرأي العام المصري أن تأثيرات على المواطنين والاقتصاد كارثية وممتدة، بل وتفوق تأثيراتها في مصر تداعياتها على الدول المتحاربة نفسها، وهذه مغالطة كبرى، فروسيا التي تقود الحرب في أوكرانيا لم ينكمش اقتصادها سوى بنسبة 2.1% فقط خلال عام 2022، وأوكرانيا التي غزاها الروس ودمروا بنيتها التحتية لم تفقد عملتها سوى نحو 30% منذ انطلاق الحرب.
وتأثير حرب أوكرانيا على الاقتصاد المصري كان من الممكن أن يكون محدوداً ولفترة غير طويلة في حال عدم اعتماد الدولة على الأموال الساخنة في تحقيق استقرار غير حقيقي للجنيه المصري، وفي حال اكتفاء الدولة من السلع الاستراتيجية مثل القمح والذرة والزيوت والأرز والأدوية، وفي حال لجم الاقتراض الخارجي، وعدم الإساءة لموارد الدولة المحدودة من النقد الأجنبي، وتجنب تطبيق السياسات الاقتصادية الخاطئة القائمة على تفضيل الاقتراض على حساب الإنتاج المحلي والاغتراف من جيب المواطن وزيادة الضرائب والرسوم، والتوقف عن سياسة التوسع المفرط في سياسة "النيوليبرالية المتوحشة" التي أفقرت الملايين وتسببت في انهيار الطبقة الوسطى وقذفت بهم نحو الفقر.