فاجأت التطورات الاقتصادية والسياسية السريعة في سريلانكا، المحللين، فشرعوا في دراسة أحوال العديد من الاقتصادات الناشئة والنامية حول العالم، لمعرفة إذا ما كان أحدها معرّض للوقوع فيما وقعت فيه الجزيرة الصغيرة القابعة في المحيط الهندي، والتي فقدت ما يقرب من ثمانين بالمائة من احتياطي النقد الأجنبي لديها في أقل من ثلاث سنوات.
وفي عدد "إيكونوميست" الأخير، نشرت المجلة الأكثر شهرة وتأثيراً (في رأيي) في عالم الاقتصاد، تقريراً مطولاً عن ثلاثةٍ وخمسين اقتصاداً وصفتها المجلة البريطانية بالهشاشة، مؤكدة أن "ملامح أزمة الديون" بدأت تتضح في هذه الاقتصادات.
وكما كان الحال في أغلب التقارير التي صدرت في هذا الموضوع في الفترة الأخيرة، احتلت مصر مكانة متقدمة فيما نشرته ايكونوميست، التي أكدت العديد من النقاط التي حفظناها عن ظهر قلب مؤخراً، من كثرة ما رددها المحللون، بل ومسؤولون مصريون أيضاً، خلال الأشهر الأربعة الأخيرة.
تقول إيكونوميست إن ما حدث في سريلانكا هو علامة على ما يمكن أن نراه في بلدانٍ أخرى، بعد أن ارتفع عبء الديون في الدول الفقيرة إلى مستويات غير مشهودة في عقود، نتيجة لارتفاع تكلفة الغذاء، وتباطؤ الاقتصاد، والارتفاع الحاد في معدلات الفائدة حول العالم، وهو ما يدفع الاقتصادات الناشئة إلى عصر "الآلام المكثفة للاقتصاد الكلي".
ومع الإشارة إلى أن كل الدول الثلاثة والخمسين تعاني من واحدة من المشكلات الثلاث، وهي حجم استدانة غير قابل للاستمرار (أو شديد الخطورة)، وتأخر عن سداد الديون، وتداول سنداتها في الأسواق الثانوية عند مستويات شديدة الانخفاض، وضع اقتصاديو المجلة مصر على رأس قائمة من الدول التي يرتفع فيها الدين العام مقارنة بالناتج المحلي، بنسبة 93.5%، متفوقة على دول يفترض أنها تمر بظروف شديدة الخصوصية، مثل تونس والسلفادور والأرجنتين وباكستان وأوكرانيا، إلا أن هذه المعلومة لم تكن جديدة، فقد قرأناها في تقارير أخرى سابقة.
تحدثت المجلة عن ارتفاع سعر الدولار مقابل سلة من عملات العالم بنسبة 12% منذ بداية العام، إلا أن الارتفاع مقابل العملة المصرية، كما تظهره أسعار العملات المعلنة لدى البنوك العاملة في مصر تجاوز عشرين بالمائة.
وأشارت المجلة العريقة إلى أن القدرة على الحصول على التمويل المطلوب تراجعت في العديد من تلك البلدان، وأن تكلفة الاقتراض في بعضها ارتفعت إلى مستويات غير مشهودة منذ عقود، أو على الإطلاق، ليتجاوز الفارق بينها وبين سندات الخزانة الأميركية المعيارية عشرة بالمائة، مشيرةً إلى أن بعض البلدان من هذه المجموعة لن تتحمل الضغوط، وأن السندات التي أصدرتها حكومات تلك الدول يتم تداولها حالياً عند مستويات شديدة الانخفاض.
ووضعت المجلة مصر كأول دولة تنتمي إلى هذه المجموعة، بفعل مجموعة من السياسات الخاطئة وسوء الحظ، إلا أن هذه المعلومات أيضاً لم تكن جديدة، حيث قرأناها في تقارير أخرى سابقة.
أشار اقتصاديو المجلة إلى أن بعض الدول ذات الدخول المتوسطة أصبحت في وضعٍ أفضل مما كانت عليه في السابق، بسبب الحصول على احتياجاتها من التمويل من البنوك المحلية، إلا أن هذا الوضع، وفقاً للمجلة، يعني إمكانية تعرّض البنوك لضغوط في حالة اقتراب الحكومات من أزمات سيولة.
ونقلت إيكونوميست عن صندوق النقد الدولي تقديره بوصول استثمارات البنوك المحلية في الدين العام في بلدانها إلى نسبة 17% من الناتج المحلي فيها خلال العامين الأخيرين، أي أكثر من ضعف النسبة في الاقتصادات المتقدمة، مشيرةً إلى أن نسبة الاستثمار في الديون السيادية إلى إجمالي أصول البنوك المحلية وصلت في مصر إلى 40%.
انتهى كلام المجلة عن مصر بعد أن بين خطورة ما يمكن أن يحدث للبنوك المصرية حال تزايد أزمة السيولة، خاصة بالعملة الأجنبية، التي تعاني منها الحكومة المصرية والبنك المركزي المصري، بعد سلسلة من المفاجآت غير السعيدة، كان أهمها خروج عشرات المليارات من الدولارات من الأموال الساخنة، التي أخطأ البنك المركزي في الاعتماد عليها لفترة طويلة في دعم سعر الجنيه مقابل الدولار، وفي سد عجز الحساب الجاري المزمن.
وعلى مدار السنوات الماضية، توسع البنك المركزي المصري في إصدار أذون خزانة بالدولار واليورو، ودعا البنوك العاملة في مصر للاستثمار فيها، الأمر الذي خلق وزاد من حجم انكشاف تلك البنوك على البنك المركزي المصري بالعملة الأجنبية، على نحو لم تعرفه البلاد خلال القرن الماضي، والسنوات العشر الأولى من القرن الحالي.
ويزداد الأمر سوءاً بالنسبة للبنوك المصرية لو أخذنا في الاعتبار ما أعلنه البنك المركزي مطلع الشهر الحالي من تراجع صافي الأصول الأجنبية لدى القطاع المصرفي، بما فيه البنك المركزي المصري، للشهر الثامن على التوالي، ليصل إلى سالب 305 مليارات جنيه، أي ما يقرب من 16 مليار دولار بالسعر الحالي، أو أكثر من 19 مليار دولار بسعر ما قبل تخفيض قيمة الجنيه المصري في مارس/آذار الماضي.
ويمثل هذا المبلغ رقماً يتعين إضافته للدين الخارجي المصري، رغم أن الدائن هو البنوك المحلية وعملاؤها، وذلك لأن سداده سيكون بالعملة الأجنبية.
التطورات الأخيرة تمثل جرس إنذار للبنوك المصرية، وهو ما يتطلب درجة من الوعي في التعامل مع هذا الموقف شديد الحساسية، فمن ناحية نجد أن الأمر يزداد خطورة بالتأكيد بالنسبة لتلك البنوك، وفي نفس الوقت هناك دور يتعين على تلك البنوك لعبه من أجل دعم البنك المركزي والحكومة المصريين.
ومع تأكيد البنك المركزي المتكرر على أن ودائع العملاء، سواء بالجنيه المصري أو بالعملة الأجنبية، ليست قريبة من الأزمات في الوقت الحالي، إلا أنه من المؤكد أيضاً أن الحالة التي كانت عليها البنوك المصرية، خاصةً بعد إجراءات الإصلاح الكبرى التي خاضتها مطلع الألفية الجديدة، والتي جعلت من القطاع المصرفي الناجي الوحيد خلال ثورة يناير 2011 وما بعدها، لم تعد مضمونة في اللحظة الراهنة.