أعاد الرئيس التونسي قيس سعيد ملف التصرف في القروض والهبات، التي حصلت عليها الدولة خلال السنوات العشر الماضية إلى الواجهة، بالإعلان عما وصفها بالنتائج المهمة لتدقيق شامل حول التصرف فيها، الأمر الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط التونسية، ما بين مؤيد لهذه الخطوة، بدعوى عدم انعكاس المبالغ التي حصلت عليها الدولة على معيشة المواطنين، ومعارض لها، معتبرين أنها تأتي في إطار سياسة "تصفية الحسابات" بحق الرافضين لسياسات سعيد الرامية للانفراد بالحكم، وتحمل نتائج عكسية للاقتصاد، خاصة في حال الرغبة بالحصول على قروض دولية جديدة.
وفي كلمة له خلال الاحتفال بيوم العلم في قصر قرطاج، أول من أمس الجمعة، تطرق الرئيس التونسي إلى قضية جرد القروض والهبات، قائلاً: "بعد التدقيق الذي تقوم به الدولة هذه الأيام سيتم الكشف عن الأطراف التي استفادت من بعض الهبات". وأضاف: "بعض الهبات والقروض التي تحصلت عليها تونس ذهبت في جيوب من تعلمون ومن لا تعلمون".
وتأتي هذه التصريحات بعد نحو يومين من اجتماع سعيد بكلّ من وزيرة المالية سهام البوغديري نمصية، ومحافظ البنك المركزي، مروان العباسي. وتناول الاجتماع، وفق بيان لوزارة المالية نتائج جرد وضبط وضعية القروض والهبات المسندة لفائدة الدولة التونسية والمؤسسات العمومية خلال العشر سنوات الأخيرة.
اتهامات بلا أرقام
ولم يكشف الرئيس التونسي أو وزارة المالية عن حجم القروض والهبات التي حصلت عليها الدولة أو الخسائر التي تكبدتها الموازنة جراء عدم الاستفادة منها، ما أثار جدلاً واسعاً في البلاد.
وأعلنت منظمة بوصلة (مدنية)، أنها تقدمت إلى كل من رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ووزارة المالية بطلب للحصول على التقرير، الذي أعدته وزارة المالية حول نتائج جرد وضبط القروض والهبات المسندة لفائدة الدولة وللمؤسسات العمومية خلال السنوات العشر الأخيرة.
وقال هيثم بن زيد، المكلف بالإعلام في المنظمة، لـ"العربي الجديد": "من حق التونسيين الاطلاع على التقرير باعتبارهم من يتحملون مباشرة نتائج سياسات التداين وهم المطالبون بتسديدها لاحقا".
وأضاف أن المنظمة لم تتلق بعد الرد بشأن طلبها، والعديد من المنظمات المدنية أطلقت مبادرة بعنوان "يزي ما رهنتونا" (كفانا ارتهانا للقروض) من أجل مواصلة الضغط باتجاه كشف السلطة عن مآل القروض والهبات التي حصلت عليها البلاد على امتداد السنوات العشر الماضية، مرجحاً إمكانية اللجوء إلى القضاء للحصول على حق المعلومة المكفول بالقانون.
وقال بن زيد الذي تُعرف منظمته أنها مستقلة عن جميع التيارات السياسية في تونس، إن "السلطة بصدد استغلال ملفات مهمة سياسياً ولم تتم محاسبة الأطراف المتورطة قضائياً"، مضيفا: "الهدف من الجرد هو محاسبة المخطئين قانونياً وليس تصفيتهم سياسياً".
وحصلت تونس في السنوات الأخيرة على جملة من الهبات والقروض لإنعاش الاقتصاد، والقيام بمشاريع تنموية أو لتعبئة موارد الميزانية، كما خصص جزء منها لبرامج مقاومة الفساد والانتقال الديمقراطي والتشغيل، في المقابل ما زالت مستويات البطالة مرتفعة وتسجل أغلب الخدمات العامة تراجعا كبيراً.
وتغيب الأرقام الرسمية المفصلة عن حجم ومآل القروض والهبات التي حصلت عليها تونس على امتداد السنوات العشر الماضية، غير أن نسبة الديون تناهز نحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي بحسب بيانات رسمية لوزارة المالية.
في المقابل، طالبت حركة النهضة، في بيان، يوم الجمعة، بنشر تقرير لجنة جرد القروض والهبات. ودعت الحركة "سلطة الأمر الواقع إلى الكف عن الخطاب الشعبوي المرتكز على إلقاء التهم جزافا على الحكومات بالفساد والإيهام باختلاس المال العام دون تقديم أي دليل، بما يضرب الثقة بين مؤسسات الدولة والجهات الدولية ويسيء إلى سمعة البلاد في مجال الحوكمة المالية ويزيد في عزلتها، فضلاً عن كون هذا التشويه الزائف يمثل جريمة تترتب عليها آثار قانونية".
سياسات مضللة للحقيقة
كما دعت الحركة، الحكومة إلى "مكاشفة الرأي العام بحقيقة الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي والكف عن اعتماد سياسات مضللة للحقيقة وإيهام الرأي العام بتسجيل مكاسب وهمية".
وأشارت إلى ضرورة "الانكباب الجدي على توفير المواد الأساسية المفقودة منذ شهور ومراقبة الزيادات العشوائية في الأسعار والتراجع عن الزيادات في أسعار المواد المدرسية لهذه السنة ومراعاة المقدرة الشرائية للمواطنين".
وتعاني تونس أزمة اقتصادية ومالية تفاقمت حدتها جراء تداعيات جائحة كورونا والحرب الروسية في أوكرانيا، إضافة إلى عدم استقرار سياسي تعيشه البلاد منذ بدأ الرئيس سعيد فرض إجراءات استثنائية في 25 يوليو/ تموز 2021.
وقفز التضخم السنوي في تونس خلال يونيو/ حزيران الماضي، عند قمة ثلاثة عقود، وسط زيادات حادة في أسعار السلع. وقال المعهد الوطني للإحصاء (حكومي)، إن التضخم السنوي صعد إلى 8.1% في يونيو/حزيران الماضي، مقابل 7.8% في مايو/ أيار.
وتأتي تصريحات الرئيس التونسي عن نتائج مهمة جرد القروض والهبات بعد نحو 10 شهور من تكليفه وزيرة المالية سهام بوغديري نمصية بالأمر نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2021.
ولا أرقام دقيقة للهبات والقروض التي تلقتها تونس منذ ثورة 2011 التي أطاحت الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. لكن الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية جون كلود يونكر كان صرح خلال زيارة له إلى تونس في 2018 بأن الاتحاد الأوروبي وحده قدم مساعدات لتونس بقيمة 10 مليارات يورو، خلال السنوات السبع منذ 2011.
وقال وزير التجارة الأسبق والخبير المالي محسن حسن لـ"العربي الجديد" إنّ "من حقّ أي دولة أو أي شعب أن يطالب بإجراء جرد للديون الخارجية والداخلية والهبات لضمان شفافية الأرقام".
وقدر حسن، حصول البلاد على قروض خارجية بقيمة 56 مليار دينار (18 مليار دولار) خلال السنوات العشر الماضية، ترتّبت عنها فوائد بقيمة 12 مليار دينار (حوالي 4 مليارات دولار) إلى جانب حصولها على هبات بقيمة 4 مليارات دينار (1.3 مليار دولار).
لكنّه أكد أنّ "كلّ القروض والهبات التي تحصل عليها البلاد تودع في حسابات خاصة للخزينة وتحت تصرف وزارة المالية كما تتم مراقبة صرفها من قبل المؤسسات المانحة وهو ما يجعل التلاعب بحساباتها أمراً شبه مستحيل".
تابع أنّ "الهبات التي تمنحها الدول أو المؤسسات الأجنبية تتم بناء على دراسات أنجزتها مكاتب متخصصة وتوجه لمشاريع تنجز تحت مراقبة مصدر الهبة".
لكن حسن، قال إن "السلطات التونسية أخطأت على مدى السنوات الماضية في طرق التصرف في القروض الخارجية بتوجيهها نحو دعم الموازنة وصرف الأجور ونفقات التسيير ما تسبب في ارتفاع التضخم وتراجع الخدمات العامة في غياب الاستثمارات والمشاريع الكبرى الخالقة للثروة".
وأضاف أن "التونسيين يتحملون حاليا تبعات خيارات الحكومات السابقة التي كانت تشترى السلم الاجتماعي عبر الزيادة في الرواتب وخلق الوظائف الوهمية التي أثقلت ميزانية الدولة بكتلة الأجور دون تحقيق أي نسب نمو".
تدقيق شامل في القروض
والرئيس سعيد ليس أول المطالبين بالتدقيق في ديون البلاد والهبات التي حصلت عليها تونس على امتداد السنوات العشر الماضية، حيث سعت عام 2019 النقابات وأحزاب ممثلة في البرلمان إلى استصدار قرار يسمح بإجراء تدقيق شامل في القروض التي حصلت عليها الدولة في السنوات التي تلت الثورة للتثبت في سلامة صرف هذه القروض.
وطالب عدد من أعضاء لجنة المالية حينها بإجراء تدقيق مالي معمق وشامل لكل القروض والهبات المالية التي تحصلت عليها تونس خلال السنوات السابقة، بالإضافة إلى حصر دقيق للديون المتخلدة بذمة الدولة والتي يستوجب عليها تسديدها.
ورغم انتقاد الرئيسي التونسي حجم الديون المستحقة على البلاد، إلا أنها تواصل الارتفاع وفق البيانات الرسمية. وبحسب البيانات التي تضمنتها ميزانية تونس لعام 2022، فإن حجم الدين العمومي للدولة سيرتفع مع نهاية 2022 إلى 114 مليار دينار (37 مليار دولار) مقابل 107 مليارات دينار (حوالي 34 مليار دولار) في 2021، ما يشكل زيادة تفوق 6 مليارات دينار.
وارتفعت ديون تونس بعملة اليورو لتشكل 54.79%، بعدما كانت في حدود 21.55% عام 2021، بينما يحافظ الدين بالدولار على النسبة نفسها تقريباً بـ 17.53%.
ويتوزع الدين الخارجي إلى 3 أصناف، تتمثل في ديون مع الدول بنسبة 17.8% من إجمالي الديون، والثاني لصالح مؤسسات دولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين بنسبة 60%، أما النسبة المتبقية والمقدرة بنحو 22.2% فقد جرى اقتراضها من السوق المالية وهي غالباً قروض من السوق المالية اليابانية بضمانات أميركية.
وقال الخبير المالي التونسي خالد النوري، إنّ تونس تعتمد منذ المصادقة على القانون الأساسي للميزانية سنة 2015 معايير محاسبية دولية ومعترف بها لدى الهيئات الدولية، وهو ما سهل حصولها على القروض الخارجية، رغم أزمتها، لكنّ السلطات على امتداد السنوات العشر الماضية سقطت في فخ التداين دون إيجاد حلول جذرية للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية في البلاد وهو ما أفضى إلى شكوك حول حوكمة الدين وطرق التصرف فيها.