حين تركت جانيت يلين منصب رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) أوائل عام 2018، وكان عمرها آنذاك 73 عاماً، تصور البعض أن الاقتصادية الواعدة قد وصلت إلى آخر محطاتها المهنية، بعد عقود من النجاح. لكن شاء القدر أن تفرض صناديق الاقتراع تغيير ساكن البيت الأبيض في السنوات الأربع القادمة، ليأتي الضيف الجديد جو بايدن وفي حقيبته ورقة تضع اسم جانيت يلين على رأس قائمة المرشحين، لتكون أول امرأة تتولى وزارة الخزانة في الولايات المتحدة، بعد أن كانت أول سيدة تترأس بنك الاحتياط الفيدرالي، والوحيدة حتى الآن. وبعد تسجيل عجز في الميزانية الأميركية بقيمة ثلاثة تريليونات دولار في العام المالي المنتهي بنهاية سبتمبر/أيلول الماضي، وتزايد احتمالات إقرار حزمة إنقاذ جديدة للاقتصاد لن تقل قيمتها عن تريليوني دولار، قد تعود يلين، إلى الإدارة الأميركية في واحدة من أصعب اللحظات التي يمر بها الاقتصاد الأميركي، والتي تتطلع فيها أعين مئات الملايين، داخل وخارج الولايات المتحدة، إلى ما ستضخه من أموال، بهدف الخروج بالاقتصاد الأكبر في العالم من الركود، وتعيد عشرات الملايين من الأميركيين إلى وظائفهم.
وتحظى يلين، التي عملت في بنك الاحتياط الفيدرالي لأكثر من خمسة عشر عاماً، منها أربعة في رئاسته، والتي تترأس حالياً الرابطة الاقتصادية الأميركية، بثقة الحزبين الجمهوري والديمقراطي، إلا أن دعمها لقضايا التنوع، وإصرارها في العديد من المناسبات على التأكيد على أهمية إعطاء فرص أكبر للنساء والملونين في المجتمع الأميركي، وبصفة خاصة في تخصصها الاقتصادي والمالي، كل ذلك جعل منها أفضل اختيار لإدارة جديدة يبدو أنها تضع قضية حقوق الأقليات على رأس أولوياتها.
وبعد أربع سنوات، اعتبر البعض أنها كانت خاضعة لـ"الرجال البيض"، وتخدم بالأساس مصالح رجال الأعمال وأصحاب النفوذ في حي "وول ستريت" والشركات الكبرى في الولايات المتحدة، يأتي ترشيح يلين للمنصب الذي يعد شاغله المستشار الاقتصادي الأول للرئيس الأميركي، ليساعد الإدارة الجديدة على استغلال كافة الموارد المتاحة لها، وعلى رأسها الكفاءات الموجودة في كل الأعراق والطوائف في أميركا.
وينتظر ملايين السكان من المرشحة الجديدة وضع لمساتها على السياسات المالية والنقدية والاقتصادية والتجارية والضريبية، بما يسمح بخدمة الفئات الأضعف في المجتمع الأميركي. وأثناء توليها رئاسة البنك الفيدرالي، كان شعار "توزيع أكثر عدلاً للثروة" عنصراً مهما في الكثير من لقاءات وأحاديث يلين، يذكر منها حديثها أمام لجنة الخدمات المالية بمجلس النواب، حين وصفت فجوة الثروة المتزايدة بين الأجناس المختلفة بأنها "مزعجة للغاية"، مستشهدةً بنتائج أحدث الأبحاث التي أكدت أن زيادة التفاوت في الثروات "يمكن أن يكون له تأثير على إنفاق المستهلكين وفرص التعليم المتاحة"، وهو ما يؤثر بالضرورة على الاقتصاد والسلم المجتمعي.
وخلال جلسة في مؤتمر الرابطة الاقتصادية الأميركية هذا العام بعنوان "كيف يمكن للاقتصاد حل مشكلة العرق؟"، قالت يلين إن التباينات العرقية "غير عادلة للغاية"، واقتبست رداً على استطلاع للرابطة من عضو أميركي من أصل أفريقي قال فيه "يهيمن على الاقتصاد أشخاص لا يهتمون كثيراً بعواقب العنصرية".
وعن إتاحة الفرص للجنسين، كان ليلين باعٌ طويل على مدار حياتها المهنية. وفي مقابلة حديثة مع صحيفة فاينانشال تايمز، تقول صاحبة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة ييل العريقة، إنها كانت قبل عشرين عاماً تعتقد أن جنسها لم يتسبب في تعطيل تقدمها المهني، إلا أنها بعد كل تلك السنوات، أصبحت تقدر بشدة الصعوبة التي تقابلها النساء للحصول على التقدير المستحق في أي أدوار أو أعمال اقتصادية يشاركن فيها. وترى يلين أن "هناك رجالاً في هذا المجال لا يزالون حتى يومنا هذا عدوانيين للغاية مع المرأة العاملة فيه".
وبخلاف التجربة القوية في قيادة البنك الفيدرالي، عملت يلين فور حصولها على الدكتوراه كأستاذ مساعد في جامعة هارفرد العريقة، لتصبح بعد ذلك اقتصادية في مجلس إدارة البنك الفيدرالي، ثم محاضرة في كلية لندن العريقة للاقتصاد والسياسة، ليدرس على يديها الآلاف من طلبة الاقتصاد وإدارة الأعمال، في الدرجات العلمية المختلفة، وفي العديد من الجامعات.
وبخلاف استعانة الرئيس السابق باراك أوباما بها في إدارة البنك الفيدرالي، وترشيح بايدن لها كوزيرة للخزانة، ترأست مجلس المستشارين الاقتصادين للرئيس الأسبق بيل كلينتون، الذي يعتبر الكثيرون عهده وسياساته من الأفضل اقتصادياً بين الرؤساء الأميركيين، ما يعني أن كل الرؤساء من الحزب الديمقراطي خلال ما يقرب من ثلاثة عقود استعانوا بالسيدة التي ولدت لأسرة متوسطة من أصول بولندية يهودية في حي بروكلين الشهير بولاية نيويورك الأميركية، والتي كادت تتخصص في دراسة الفلسفة، قبل أن تعدل رغبتها في اللحظات الأخيرة لتدرس الاقتصاد وتنبغ فيه. وتزوجت يلين من جورج أكرلوف، أستاذ الاقتصاد حالياً بجامعة كاليفورنيا، والذي حصل بعد زواجهما على جائزة نوبل في الاقتصاد، مشاركة مع الاقتصاديين الشهيرين مايكل سبنس وجوزيف ستيغلتز. أما ابنهما روبرت أكرلوف، فلا يزال مدرساً للاقتصاد في جامعة وارويك البريطانية العريقة.