تصاعدت في تونس في الفترة الأخيرة، معركة كسر العظام بين السلطة وكارتلات الأعمال التي دخلت في مواجهة غير مباشرة مع الرئيس قيس سعيد، بسبب إعلانه ما وصفها بـ"حرب التصدي للمحتكرين والمضاربين"، بهدف حماية قوت المواطنين من الغلاء القياسي الذي يعيش على وقعه التونسيون.
وتسعى كارتلات الأعمال إلى حماية مصالحها مستعملة كل الوسائل المتاحة للتصدي لمخططات السلطة الجديدة، التي تخيف المستثمرين. كما انتقدوا عدم طرح أي خريطة طريق لإنقاذ البلاد اقتصادياً رغم مرور أكثر من شهر على قراراته. ويأتي ذلك وسط اختفاء معظم السلع الأساسية وغلاء قياسي يعاني منه المواطنون. وقال الرئيس التونسي إنه سيتعامل بحزم مع محتكري السلع والخدمات بمختلف القطاعات في السوق المحلية، مؤكدا أنهم "سيدفعون الثمن غاليا".
جاء ذلك، عقب زيارة إلى مستودع للحديد بمنطقة بئر مشارقة بمحافظة زغوان (شمال شرقي العاصمة)، حيث تم حجز 31 ألف طن من الحديد الموجه للاستعمال في البناء مخزنة بغرض المضاربة.
كارتلات الحديد والغذاء
وخلال الشهر الماضي، قام الرئيس التونسي بعدد من الزيارات الفجائية لمخازن تبريد وتخرين الغذاء، كما داهمت المصالح الحكومية مستودعات لمن وصفتهم بالمضاربين في مادة الحديد أيضا.
لكن على أرض الواقع لم تجد دعوات الرئيس التونسي إلى خفض الأسعار صدى كبيراً، وفق مراقبين، رغم إعلان منظمات مهنية امتثالها لدعوات السلطة بالمساهمة في تحسين الوضع المعيشي للتونسيين. ولا تزال الأسعار في مستويات قياسية، مسببة ضغوطاً مالية على الأسر التي تواجه غموض المرحلة ومقاومة التجار لكل قرارات لجم السوق التي تحررت من اليد العليا للدولة.
ويعتبر الخبير الاقتصادي ووزير التشغيل السابق، فوزي عبد الرحمن، أن كارتلات الغذاء والحديد بصدد تشكيل وفاقات لتكوين جبهة ضد قرارات الرئيس ومواصلة التحكّم في السوق والأسعار مستندة إلى ضعف القوانين والتشريعات واقتصاد الريع المحمي من الدولة على مدى سنوات. وأفاد عبد الرحمن في تصريح لـ"العربي الجديد" أن احتكار الكارتلات للسلع أمر ثابت، غير أن حرب الرئيس ضدهم قد تسبب خسائر للنسيج الاقتصادي والمؤسسات والعمال ومناخ الأعمال عموما بسبب التصعيد من الطرفين في غياب حكومة يمكن أن تلعب دورا مهما في تجسيد قوة الدولة في مكافحة الاحتكار بإعادة النظر في قوانين المنافسة والأسعار.
حرب استعراضية
وأضاف وزير التشغيل السابق أن سياسة سعيد في مكافحة الفساد والاحتكار "استعراضية"، حيث يقود هذا الأخير حربا نفسية على رجال الأعمال المتورطين في المضاربة وتجفيف السوق، معتبرا أن هذه الحرب المعنوية غير كافية في غياب حكومة. ويعتبر عبد الرحمن أن عدم الدراية الكافية للرئيس سعيد بمناخ الأعمال والمسائل الاقتصادية عموما قد يؤدي إلى شيطنة رجال الأعمال ويحد من حماستهم في ضخ المزيد من الاستثمارات والانخراط في المجهود الوطني للنهوض باقتصاد بلادهم.
وأكد الخبير الاقتصادي أن الدولة بتشريعاتها الحالية تسمح للصناعيين والتجار بالتنظيم في كارتيلات، معتبرا أن وزارة التجارة ومؤسساتها ومنشآتها أصبحت مساهمة في توزيع الريع من جهة والتحكيم بين اللوبيات من جهة أخرى.
ويقول وزير التشغيل السابق إن الأموال التي يطالب سعيد باستعادتها من رجال الأعمال ليست أموال الشعب كما يسوّق لذلك، مشيرا إلى أن عددا من رجال الأعمال راكم ثروات من مؤسسات اقتصادية ناجحة توفر نحو 2 مليون موطن شغل للعاملين في القطاع الخاص.
ودخلت تونس أزمة سياسية، إذ جاء قرار سعيد، ليل الثلاثاء من الأسبوع الماضي، بتمديد التدابير الاستثنائية التي اتخذها في 25 يوليو/ تموز الماضي "حتى إشعار آخر"، ليزيد من ضبابية المشهد الاقتصادي في الدولة التي تعاني من صعوبات مالية كبيرة، إذ لم يطرح الرئيس أي خريطة طريق لإنقاذ البلاد اقتصادياً، فيما تتصاعد تحذيرات المؤسسات المالية الدولية من تدهور مالي.
ومنذ إقراره تلك التدابير، حاول سعيد البعث برسائل طمأنة إلى الداخل والخارج حول استقرار الأوضاع في البلاد.
لكن انفراد الرئيس التونسي بالسلطة التنفيذية تسبب في قلق واسع في أوساط المستثمرين وحتى الطبقات العاملة وارتباك في الأسواق، حسب مراقبين.
نقص السلع الغذائية
وتشهد أسواق تونس بسبب حرب الكر والفر بين السلطة والكارتلات نقصا في تزويد مواد أساسية ومنها زيت الطهي والمياه المعدنية والحديد إلى جانب ارتفاع قياسي في أسعار اللحوم البيضاء ومشتقات الدواجن التي تمثل المصدر الأساسي للبروتينات في غذاء التونسيين.
ورغم قلقه من الوضع السياسي في البلاد وتواصل غموض المرحلة الجديدة يقرّ الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل، سامي الطاهري، بوجود كارتلات نافذة تبسط سلطتها على قطاعات السياحة والغذاء والبناء والسيارات وقطاع الغيار والمقاولات والبنوك والتأمينات والصحة والدواء والماء والبذور ومسالك التوزيع.
ويقول الطاهري في تصريح لـ"العربي الجديد" إن هذه "الكارتلات" كانت تحتمي بغطائها السياسي والبرلماني، مشيرا إلى أن مكافحة الفاسدين قد تتسبب في التضييق على الحريات والحقوق العامة. وطالب الطاهري بضرورة إعلان الرئيس عن خارطة طريق سياسية واقتصادية واضحة، معتبرا أن تأخير إعادة ترتيب البيت السياسي يفتح المجال للمافيا بإعادة التنظيم، وفق تعبيره.
ومباشرة بعد مسكه بالسلطة توجه الرئيس سعيد إلى رجال الأعمال، مطالبا إياهم بمساعدة البلاد على تجاوز وضعها الصعب ملوّحا بإصدار مرسوم لاستعادة 13 مليار دينار (4.6 مليارات دولار) من الأموال المنهوبة في إطار صلح جزائي سيبرم بين الدولة ورجال الأعمال الذين تمتعوا بامتيازات غير قانونية واستفادوا من نفوذهم خلال عقود.
وأكد سعيد في لقاء جمعه برئيس اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (منظمة رجال الأعمال)، سمير ماجول، أنه يملك قوائم اسمية برجال الأعمال الذين استفادوا من امتيازات وسيكونون مطالبين بإبرام صلح جزائي مع الدولة، مطالبا إياهم بقبول الصلح لتجنب المحاكم والسجون. ولكنه قال أيضا إنه لا نية لديه لملاحقة رجال الأعمال أو التشفي منهم واصفا الجزء الأكبر منهم بالوطنيين. واستند سعيد في تحديد مبلغ الأموال التي قال إن رجال أعمال نهبوها وانتفعوا بها، إلى تقرير أصدرته لجنة تقصي الحقائق عقب الثورة عام 2011. كذلك طلب سعيد من منظمة رجال الأعمال التي تمثل التجار وموزعي المواد الغذائية، خفض الأسعار وتجنّب المضاربة في مثل هذه الفترة التي تمر بها البلاد. وعقب ثورة 2011، تم منع قرابة 460 رجل أعمال من السفر وأحيلت ملفاتهم على القضاء بتهمة التعامل والاستفادة من نظام بن علي، على حساب الاقتصاد التونسي. وقبل إقالة هشام المشيشي بأسابيع، أعلنت رئاسة الحكومة عن إلغاء العمل بـ27 ترخيصا في قطاعات حيوية في خطوة لتقويض نفوذ الاستثمارات العائلية في تونس وتشابك مصالحها مع أطرف سياسية في الدولة.
وشملت إلغاء التراخيص الصناعات الثقيلة والإسمنت والكهرباء والتبغ والملابس المستعملة والسياحة والنقل الخاص في المناطق الريفية وتوريد وتسويق الأجهزة الإلكترونية وإدارة المحافظ المالية. وإلغاء العمل بالتراخيص في العديد من القطاعات الحيوية كان مطلباً متكرراً من منظمات وقطاعات أعمال واسعة، أكدت أنّ حصر مزاولة الأنشطة في كيانات بعينها يكبل المنافسة الحرة في البلاد. وبحسب وثيقة حكومية، فإنّ التراخيص التي جرى إلغاء العمل بها تمثل نحو 10% من إجمالي التراخيص الممنوحة في البلاد والتي يُعمل بها منذ عقود طويلة.
مخاوف عمالية
ويخشى عمال في القطاع الخاص ردّ فعل عنيفاً من أصحاب الأعمال إزاء قرارات السلطة، قد ينتهي بهم في الشوارع بسبب التسريح أو خفض الأجور. ويقول عماد م.، وهو عامل بمصنع الحديد الذي صادرت السلطات مخزونات كبيرة من مستودعاته، إن صاحب المصنع سيحمّل العمال جزءاً من خسائره في حال خسارة التظلم ضد الدولة. وقال العامل، الذي رفض ذكر اسمه كاملاً، لـ"العربي الجديد": نخشى تسريح جزء من العمال أو خفض أجورنا من قبل إدارة المصنع، معتبرا أن العمل في القطاع الخاص هشّ ولا يحمي حقوق العمال بشكل جيّد.
وسمح نظام التراخيص الذي أرسته تونس منذ سبعينيات القرن الماضي باحتكار الثروة لدى مجموعات اقتصادية أغلبها عائلية باتت تتحكم في مفاصل الاقتصاد بفعل الهيمنة التي تمنحها التراخيص لأنشطتهم، وفق محللين اقتصاديين. وفي السياق، يقول رئيس مجلس المنافسة، رضا مصباح، إنّ "بعض التراخيص يمكن أن تكون أساساً للاحتكار، كالتراخيص المتعلقة بعمليات التركيز الاقتصادي، أو الإعفاءات الخاصة بعقود التوزيع الحصري".
ويؤكد مصباح في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ مجلس المنافسة يتدخل في هذا المستوى من خلال رأيه الاستشاري غير الملزم الذي يسبق إسناد الترخيص أو رفضه من قبل الوزير المكلف بالتجارة. يتابع أنّ التشريع المتعلق بممارسة بعض الأنشطة الاقتصادية يكرس نظام الترخيص المسبق أو يضع حواجز قانونية لممارسة النشاط، وهو ما يشكل حاجزاً أمام دخول مؤسسات جديدة للسوق ويعطي نوعاً من الحماية لبعض الأطراف النافذة في السوق من خلال محافظتها على موقعها في العديد من الأنشطة وبالتالي تكوين "لوبيات" تتحكم في بعض القطاعات.
وفي تصريح لصحيفة "لوموند" الفرنسية في أغسطس/آب 2019، قال سفير الاتحاد الأوروبي في تونس، باتريس برغاميني، إن "لوبيات اقتصادية عائلية" تعرقل المنافسة الحرة في الاقتصاد التونسي. والتوزيع العادل للثروة بين التونسيين محل اهتمام كبير لمنظمات تونسية وأجنبية حيث انتقدت المنظمات التي اشتغلت على هذا الملف احتكار فئة قليلة من التونسيين للثروة وتحكم العائلات الاقتصادية في السوق، ما تسبب في إقصاء المؤسسات الصغيرة وعدم تمكينها من الموارد والقروض المالية حتى تكبر.