جاء قرار الرئيس التونسي قيس سعيد تمديد التدابير الاستثنائية التي اتخذها في 25 يوليو/ تموز الماضي "حتى إشعار آخر" ليزيد من ضبابية المشهد الاقتصادي في الدولة التي تعاني من صعوبات مالية كبيرة، إذ لم يطرح سعيد أي خريطة طريق لإنقاذ البلاد اقتصادياً، فيما تتصاعد تحذيرات المؤسسات المالية الدولية من تدهور مالي، كما يعرب خبراء اقتصاد ونقابيون عن مخاوفهم من اتساع نطاق الأزمات لتصل إلى حدّ الانفلات الاجتماعي.
ومنذ إقراره التدابير الاستثنائية، حاول سعيد البعث برسائل طمأنة إلى الداخل والخارج من خلال دعوات لرجال الأعمال وأهم المتعاملين في القطاعات الحيوية بالمساهمة طوعاً في خفض الأسعار ومساعدة التونسيين في هذا الظرف الاستثنائي، ملوّحاً باللجوء إلى تسليط أغلظ العقوبات على المحتكرين والمضاربين.
لكن حالة التخبط التي تشهدها البلاد منذ إقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي قبل شهر وتعليق عمل مجلس نواب الشعب (البرلمان) وانفراد سعيد بالسلطة التنفيذية تسببت في قلق واسع في أوساط المستثمرين وحتى الطبقات العاملة وارتباك في الأسواق، فيما تتخبط البلاد في أزمة مالية غير مسبوقة، ويواصل التونسيون صراعهم اليومي مع ضغوط المعيشة التي لا يلوح في الأفق ما يشير إلى قرب وضع حد لها وإنما قد يصبح حلها هو الآخر مؤجلاً "حتى إشعار آخر".
وفي هذه الأثناء تواصل العديد من المؤشرات الانزلاق، بينما حذّرت مؤسسات مالية عالمية من تأزم الوضع المالي ليصل إلى حد عدم القدرة على سداد مستحقات الدائنين وتصاعد موجات الغلاء والبطالة والتعثر في دفع رواتب الموظفين من موارد مالية حقيقية.
الضغوط المالية الداخلية والخارجية تفاقمت مع تسديد تونس ديوناً بأكثر من مليار دولار في يوليو/ تموز الماضي
يقول الخبير الاقتصادي آرام بالحاج إن تونس تواجه بالأساس مشكلة مالية تقتضي حلها قبل نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، إذ يتحتم تعبئة موارد مالية لمجابهة النفقات الكبيرة والبحث عن دعم مالي داخلي وخارجي، مشيراً إلى ضرورة التفاوض بشكل سريع مع صندوق النقد الدولي، وفق برنامج حكومي معدّل يتماشى والمصالح الوطنية العليا.
وأمام غموض الوضع السياسي والاقتصادي، توقفت المفاوضات التي انطلقت مع صندوق النقد الدولي منتصف مايو/ أيار الماضي، بهدف التوصّل إلى اتفاق جديد للحصول على قرض قيمته 4 مليارات دولار. ويشترط صندوق النقد توفر الاستقرار السياسي وتوافقاً بين جميع الأطراف السياسية والمنظمات الوطنية، إلى جانب الالتزام بتنفيذ جملة من الإصلاحات المتأخرة.
وعلى إثر ذلك، أكدت وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني، في بيان لها عقب قرارات الرئيس التونسي الشهر الماضي، أنه أمام هذه الوضعية السياسية، فإنه من الصعب التوصل إلى اتفاق مع الصندوق، محذرة من خفض تصنيف تونس مجدداً بعد الخفض الأخير لتصنيفها السيادي إلى "B-"، والذي يعني أن هناك احتمالية لعدم سداد الالتزامات ومخاطرة عالية.
وحسب "فيتش"، فإن قرارات سعيد ستقلل من استعداد الشركاء الغربيين لدعم بلاده، كما أن فشل التفاوض مع صندوق النقد الدولي سيؤدي إلى استمرار الاعتماد الشديد على التمويل المحلي، وسيزيد من الضغوط على السيولة.
وتفاقمت الضغوط المالية الداخلية والخارجية مع تسديد تونس ديوناً بأكثر من مليار دولار في يوليو/ تموز الماضي، وسط توقعات باحتمالية طبع نقد محلي لسداد ديون للدائنين داخل البلاد. وساهم تسديد الديون في تراجع احتياطي تونس من النقد الأجنبي، حتى 10 أغسطس/ آب الجاري، بمقدار 1.945 مليار دينار (694.6 مليون دولار) أو بنسبة 9%.
وبلغ احتياطي العملة الأجنبية 19.731 مليار دينار (7 مليارات دولار) حتى 10 أغسطس/ آب، تغطي واردات البلاد لمدة 123 يوماً، انخفاضاً من 21.676 مليار (7.741 مليارات دولار) قبل عام.
كما انخفضت عائدات السياحة إلى 1.317 مليار دينار (470.3 مليون دولار)، بتراجع بلغت نسبته 71.9% عن الفترة المناظرة من العام الماضي، نتيجة تفشي جائحة كورونا.
تقديرات رسمية تشير إلى ارتفاع المديونية العامة خلال العام الجاري إلى قرب 35 مليار دولار، لتشكل أكثر من 85% من الناتج المحلي الإجمالي
في المقابل يقول الرئيس التونسي إن المرحلة القادمة ستكون أحسن وإنه سيحرص على حماية قوت التونسيين واستعادة أموال الشعب المنهوبةـ إذ أعلن صراحة أنه سيشن حرباً بلا هوادة على الفساد والفاسدين، بعد إصدار قرارات بمنع السفر لرجال أعمال وأعضاء في البرلمان تحوم حولهم شبهات فساد في صفقات حصلوا عليها بطرق يصفها بغير القانونية.
لكن الخبير الاقتصادي آرام بالحاج يرى أن محاربة الفساد تتطلب وضع استراتيجية واضحة المعالم وتفعيل دور مؤسسات الدولة القائمة إلى جانب الحد من هروب رؤوس الأموال بالتعاون مع المصالح المتخصصة التابعة للبنك المركزي والسوق المالية.
ويؤكد بالحاج أهمية أن يكون هناك برنامج إنقاذ، إلى جانب تحديد القطاعات التي تحتاج إلى الدعم الفوري بناء على معطيات علمية والتفكير في سبل تمويل هذا الدعم.
في المقابل يرى بالحاج أن الحديث عن إصلاحات هيكلية للمؤسسات الحكومية والإدارة والقوانين الجبائية لن يكون ممكناً على المدى القصير، معتبراً أن الشروع في هذه الإصلاحات يحتاج قبل ذلك إلى حلول للأزمة السياسية في أقرب وقت.
وخلال الشهر الماضي قام الرئيس سعيد بعدد من الزيارات الفجائية لمخازن تبريد وتخرين الغذاء، كما داهمت المصالح الحكومية مستودعات للمضاربين في مادة الحديد التي اختفت من الأسواق.
وعلى أرض الواقع فإن دعوات الرئيس التونسي إلى خفض الأسعار لا تجد صدى كبيراً رغم إعلان منظمات مهنية امتثالها لدعوات السلطة بالمساهمة في تحسين الوضع المعيشي للتونسيين، حيث لا تزال الأسعار في مستويات قياسية، مسببة ضغوطاً مالية على الأسر التي تواجه غموض المرحلة ومقاومة التجار لكل قرارات لجم السوق التي تحررت من اليد العليا للدولة.
ويرى خبراء اقتصاد أن مطالب سعيد لرجال الأعمال وما توصف بـ"الكارتلات الاقتصادية" بتخفيض الأسعار ومساعدة المواطنين غير كافية لإعادة تصويب البوصلة الاقتصادية في البلاد وإنقاذ أصحاب الدخول الضعيفة والمتوسطة من زحف التضخم الذي يلتهم رواتبهم.
رغم أهمية المرحلة السياسية والاقتصادية التي تمر بها البلاد وتمديد سعيد للإجراءات الاستثنائية إلى أجل غير مسمى لا تزال منظمة رجال الأعمال تلتزم الصمت
ويتوقع أن تشهد الأسواق قفزات جديدة في تضخم الأسعار، تزامناً مع العودة المدرسية والجامعية، ما قد يسبب عجزاً هيكلياً في موازنات الأسر ويزيد من مديونياتها. وخلال الشهر الماضي صعدت نسبة التضخم إلى 6.4% مقابل 5.7% خلال يونيو/ حزيران، لتعد المعدلات الأخيرة هي العليا منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
ويمثل كبح التضخم المعركة الأساسية التي يقودها محافظ البنك المركزي، مروان العباسي، منذ توليه السلطة النقدية عام 2018، معتبراً أن انفلات التضخم هو الخطر الأكبر الذي يمكن أن يهدد معيشة المواطنين.
ورغم أهمية المرحلة السياسية والاقتصادية التي تمر بها البلاد وتمديد سعيد للإجراءات الاستثنائية إلى أجل غير مسمى لا تزال منظمة رجال الأعمال تلتزم الصمت ولم تصدر عن مكتبها التنفيذي ولا أعضائها أي تصريحات أو بيانات بشأن منع السفر على رجال أعمال أو مشروع الصلح الجزائي مع المتهمين بالفساد منهم الذي قال سعيد إنه سيُفعّله.
لكن الاتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد العمال) لا يزال يحذر من تمديد الفترة الاستثنائية، معلناً تمسكه بضرورة وضع خريطة طريق سياسية واقتصادية واضحة المعالم ومحددة زمنياً من أجل إنقاذ البلاد من المجهول.
وقال سامي الطاهري، المتحدث الرسمي باسم اتحاد الشغل (المنظمة النقابية الأكثر تمثيلاً في تونس)، إن تمديد العمل بالإجراءات الاستثنائية الذي أعلن عنه سعيد أمر متوقع، لكن لا بد أن تكون هناك خريطة طريق، مضيفاً في تصريح لـ"العربي الجديد" أن عدم تعيين رئيس حكومة أمر غير مريح.
وحذر الطاهري من توسّع ما وصفه بـ"الثقب الأسود "الذي قد يبتلع الاقتصاد ويزيد في هشاشته وينفر المستثمرين من مناخ الأعمال ويؤدي إلى انفجار اجتماعي جديد بسبب ما ستخلفه حالة الفراغ الحكومي وتمديد العمل بالإجراءات الاستثنائية إلى أجل غير محدّد.
وانكمش الناتج المحلي الإجمالي لتونس، خلال الربع الثاني من 2021، بنسبة 2% على أساس فصلي، مقارنة مع انكماش بنسبة 1.7% في الربع الأول لنفس العام.
ارتفاع المديونية العامة خلال العام الجاري إلى قرب 35 مليار دولار، وهي تشكل أكثر من 85% من الناتج المحلي الإجمالي خلال 2021
وشهدت نسبة البطالة شبه استقرار في الربع الثاني من 2021 عند مستوى 17.9% مقارنة مع 17.8 بالمائة في الربع الأول من نفس العام.
وتشير تقديرات رسمية إلى ارتفاع المديونية العامة خلال العام الجاري إلى قرب 35 مليار دولار، وهي تشكل أكثر من 85% من الناتج المحلي الإجمالي خلال 2021، مقارنة مع قرابة 30 ملياراً بنهاية 2020.
وتونس بحاجة إلى تعبئة قروض إضافية بقيمة 18.7 مليار دينار (6.85 مليارات دولار)، وقد بلغت مستحقات الدين العمومي 16.3 مليار دينار (6 مليارات دولار) خلال 2021 وحده، لتمويل عجز ميزانيتها وسداد المزيد من الديون المستحقة.
وكانت لتدابير الرئيس التونسي تداعيات على سوق السندات، حيث تراجعت سندات تونس الأجنبية بعد يوم واحد من قرارات 25 يوليو/ تموز.
وبحسب بيانات مؤسسة "تريد ويب" المتتبعة للسندات الدولية السيادية والخاصة، تراجع إصدار السندات المقومة بالدولار الأميركي استحقاق 2025 بمقدار 2.61 سنت إلى 86.004 سنتاً للدولار الواحد، وهو أدنى مستوى منذ الربع الأول 2021.
ويعني ذلك أن إقدام تونس على طرح أية سندات في الوقت الحالي يؤشر إلى تقديم أسعار فائدة مرتفعة أعلى من السعر المرجعي، نظراً للمخاطر السياسية التي تشهدها البلاد.
وتعاني المالية العامة التونسية من وضع صعب للغاية، إذ يتوقع أن يبلغ العجز المالي 11.5% من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي، وهو الأعلى منذ ما يقرب من أربعة عقود.
مخاوف من عدم تأمين الأجور، إذا لم يتم التسريع في اختيار رئيس حكومة جديد ووضع "خريطة طريق" اقتصادية واضحة تساعد على حلحلة الأزمة التي تمر بها البلاد
ووفق وكالة "فيتش" فإن عدم القيام بالإصلاحات الاقتصادية اللازمة والقوية يجعل إعادة هيكلة ديون البلاد أمراً ضرورياً قبل تقديم أي دعم مالي إضافي لتونس. وتراجعت الاستثمارات الخارجية بنسبة 7.4% في الأشهر الستة الأولى من 2021، مقارنة مع الفترة المماثلة من عام 2020.
ويتوقع أن تتسارع وتيرة التراجع في تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة في ما تبقى من 2021، بسبب تراجع الاستقرار الذي تعيشه الدولة.
ويرى محللون أن هناك مخاوف من عدم تأمين الأجور، إذا لم يتم التسريع في اختيار رئيس حكومة جديد ووضع "خريطة طريق" اقتصادية واضحة تساعد على حلحلة الأزمة التي تمر بها البلاد.