أثار تقرير بنك "غولدمان ساكس"، أحد أكبر مصارف الاستثمار العالمية، بتجاوز نمو الاقتصاد العالمي التوقعات في عام 2024، تساؤلات حول صوابيته ومدى واقعيته، في ظل استمرار تداعيات العدوان على غزة والحرب على أوكرانيا وعدم وجود أفق لتجاوز المخاطر الجيوسياسية المستمرة، واستمرار سياسة التشدد النقدي من قبل البنوك المركزية الكبرى، إضافة إلى تراجع أسعار النفط في الأسواق الدولية، رغم خفض الإنتاج من قبل تحالف أوبك+ الذي تقوده السعودية وروسيا.
واستند تقدير نشره البنك الاستثماري الأميركي، في 14 نوفمبر/تشرين الثاني، إلى الثقة في أن موجة رفع أسعار الفائدة العالمية قد انتهت بالفعل، ويتوقع خبراؤه أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة 2.6% العام المقبل، حسبما أوردت وكالة "بلومبيرغ"، مشيرة إلى أن تلك النسبة أعلى من توقعات اقتصاديين، استطلعت آراءهم، ورجحوا نموا بنسبة 2.1%.
وفي نهاية العام الجاري، يتوقع "غولدمان ساكس" نمو اقتصاد الولايات المتحدة والصين ومنطقة اليورو بنسب 2.4% و0.5% و5.3% على التوالي، وانكماش اقتصاد ألمانيا بنسبة 0.1%.
وفي العام المقبل، يتوقع البنك تباطؤ نمو اقتصادَي الولايات المتحدة والصين إلى 2.1% و4.8% على التوالي، ونمو اقتصاد منطقة اليورو بنسبة 0.9%.
تفاؤل زائد
تعليقا على تلك النتائج، يشير الخبير الاقتصادي حسام عايش، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إلى أن "حسابات أخرى" قد تقف وراء توقعات "غولدمان ساكس"، خاصة أن صندوق النقد الدولي لديه توقعات مخالفة، مفادها أن النمو العالمي، الذي بلغ 3.5% عام 2022، سينخفض إلى 3% عام 2023، وإلى 2.9% عام 2024.
وأضاف عايش أن الصندوق يتوقع أن النمو في الدول المتقدمة سيكون 1.5% عام 2023، وسيتراجع إلى 1.4% في عام 2024، ما يعني تراوح النمو بنسب أقل من تلك التي سادت في السنتين الماضيتين، في ظل استمرار حالة عدم اليقين العالمية على المستوى السياسي والاقتصادي.
وأشار إلى أن التوقعات تؤشر إلى أن الاقتصاد الأميركي سيدخل في حالة ركود، لكن عدم رفع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لأسعار الفائدة قبل جلسته الأخيرة أبقى الباب مفتوحا أمام رفع الفائدة مع نهاية هذا العام، وربما أراد من عدم رفع الفائدة في جلسته السابقة إعطاء دفعة للنمو الاقتصادي، بحيث يتحمل نتيجة رفع الفائدة مع نهاية هذا العام في جلسته الأخيرة للعام 2023.
ويؤكد عايش أن بنوك العالم المركزية، بما في ذلك الفيدرالي الأميركي، حذرة في تحديد اتجاهات الاقتصاد العالمي، بينما تبدو توقعات "غولدمان ساكس" متفائلة، رغم أن عوامل التأثير المختلفة لا تزال على حالها، وبالذات العلاقات الأميركية الصينية المتوترة، والتي لم يفلح لقاء الرئيسين الأميركي والصيني في وضعها على سكة العلاقات الإيجابية حتى الآن، إضافة إلى الحرب المستمرة في أوكرانيا.
ومع هكذا استمرار، قد ينكمش الاقتصاد الألماني؛ لأنه الأكثر اعتمادا على الغاز الروسي، وبالتالي سيؤثر قطع هذا الغاز على أدائه، مع استمرار نسبة النمو في دول أوروبية كبرى، مثل فرنسا وبريطانيا، ضمن نطاق يقل عن 1%، بحسب عايش.
خسائر مستمرة
ويلفت الخبير الاقتصادي إلى أن هذه المعدلات من النمو الاقتصادي مكلفة لاقتصاديات الدول الأوروبية بالنظر للخسائر التي تحملتها على خلفية جائحة كورونا ونتائجها، وعلى خلفية الحرب الروسية الأوكرانية والنتائج الاقتصادية الخطيرة التي ترتبت عليها أوروبيا، وبالتالي تداعياتها العالمية.
ويضيف عايش، في هذا الصدد، إلى أن تلك التداعيات تحدث دون أن يلوح في الأفق إمكانية تخفيض أسعار الفائدة، وإن كانت هناك توقعات أن يبدأ شكل من هذا التخفيض مع نهاية النصف الأول من عام 2024، ما يرجح احتمالية ارتفاع أسعار الطاقة.
وإذا ما توسعت الحرب في غزة إلى النطاق الإقليمي، يتوقع عايش أن ترتفع أسعار النفط والطاقة مجددا، وهي من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم. وبالنتيجة، فإن توقعات "غولدمان ساكس" بشأن النمو الاقتصادي العالمي ربما "لا تملك الكثير مما تستند إليه في تفاؤلها".
صحيح أن كثيرا من المؤسسات المالية الدولية، بما فيها توقعات صندوق النقد والبنك الدوليين، كثيرا ما تعدّل من توقعاتها، إلا أن تلك التعديلات تأخذ منحنى هبوطيا منذ منتصف العام الماضي وحتى نهاية العام الجاري، ما يؤشر إلى أن خبراء هذه المؤسسات ما زالوا غير قادرين على تحديد وجهة الاقتصاد العالمي، بحسب عايش.
ويرى عايش أن التقرير الصادر عن "غولدمان ساكس" لم يقدم أدلة على ترجيح انتقال الاقتصاد العالمي من حالة من التشاؤم المنضبط إلى حالة من التفاؤل الإيجابي، خاصة مع مستجدات الحرب على غزة، والتي تبدو حربا محلية أو إقليمية، لكن تداعياتها العالمية ربما تظهر في وقت لاحق.
وأضاف أن الفيدرالي الأميركي عبر عن اتجاه تحوطي، بأن أعطى الأسواق الحرية حتى للتسعير النقدي بناء على المؤشرات المختلفة التي تظهر تباعا فيما يتعلق بالاقتصاد الأميركي، ما يعني أن البنك ليست لديه تصورات للحالة الاقتصادية للولايات المتحدة مع كل تداعياتها على العالم في عام 2024، ما يعطي انطباعات أن تقديرات "غولدمان ساكس" قد تكون خارج سياق العام للتوقعات العالمية، الأقرب إلى التشاؤم بشأن أداء الاقتصاد العالمي.
نمو اقتصاد دول الخليج
أما بالنسبة لاقتصاد دول الخليج، فتوقعات النمو فيها مجتمعة ضمن حدود الـ3%، وبالتالي سيكون عام 2024 أفضل من العام الجاري بالنسبة لاقتصادها، بالنظر إلى أن هناك طلبا متزايدا على الطاقة والنفط، إذا ما كان الركود خفيفا بالاقتصاديات العالمية، وتم تخفيض أسعار الفائدة اعتبارا من منتصف العام المقبل، بحسب عايش.
ومن شأن زيادة الطلب على النفط أن يرفع إيرادات الدول الخليجية، ما سينعكس تحسنا على أدائها ونموها الاقتصادي المتوقع، بحسب عايش. مشيرا إلى أن هكذا توقعات تؤشر إلى أن القطاع النفطي لا يزال هو القطاع الاقتصادي الحاكم في الدول الخليجية، وأن التنويع الاقتصادي في تلك الدول ما زال غضا وغير قادر على إحداث الأثر المطلوب، وأن أي تغيرات في الاقتصاد العالمي، سلبية أو إيجابية، تؤثر مباشرة على إيرادات الدول الخليجية، وتفرض نفسها على معدلات نمو الاقتصادي فيها.
ويستدعي ذلك، بحسب عايش، أن لا يكون التنويع الاقتصادي بحد ذاته هدفا لدول الخليج، و"إنما لا بد من إعطاء القطاعات الاقتصادية غير النفطية دورا أكبر في مجمل العملية الاقتصادية، والانتقال تدريجيا من الاعتماد على إيرادات النفط إلى الاعتماد على التنوع الاقتصادي، ما سيؤثر في أداء الدول الخليجية الاقتصادية على مدى سنتين أو 3 سنوات قادمة" حسب قوله.
لكن في المقابل، يبدي خبراء مخاوف على معدل النمو الاقتصادي لمنطقة الخليج في العام المقبل مع تراجع أسعار النفط، رغم زيادة المخاطر الجيوسياسية في المنطقة وخفض الإنتاج النفطي من قبل تحالف أوبك+.
الحروب والنفط
ويشير الخبير الاقتصادي والمستشار المصرفي، علي أحمد درويش، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إلى أن التقرير الصادر عن "غولدمان ساكس" يشير إلى نمو ضعيف في عام 2024، بينما تبدو تقديرات صندوق النقد الدولي أكثر وقعا، في ظل عدة متغيرات، على رأسها استمرارية الحروب، وخاصة الحرب الأوكرانية الروسية والحرب على غزة، بالإضافة إلى استمرار تداعيات جائحة كورونا، إذ بدأ الوباء في الانتشار في بعض بلدان العالم مجددا.
ويضيف درويش أن العوامل السابقة تظل ضاغطة على الاقتصاد العالمي، الذي يعاني أصلا من حالة ركود منذ عام 2021 وحتى اليوم، مشيرا إلى أن الفوائد المصرفية العالمية، التي مرت بارتفاعات كبيرة، من المرجح أن تبقى مستقرة أو تتراجع، ما يزيد من الدفع باتجاه حركة اقتصادية أفضل.
ويترافق النمو الاقتصادي، بحسب درويش، مع استهلاك أكبر للنفط، ما يؤثر بالأساس على دول الخليج، التي ترتبط اقتصادياتها بأسعار النفط العالمية بشكل كبير، فكلما كان هناك طلب أكبر على النفط نتيجة الحركة الاقتصادية العالمية والنمو الاقتصادي سينعكس إيجابا على حجم إيراداتها النفطية.
ويخلص درويش إلى أن التوقعات تصب في صالح معدلات طفيفة للنمو الاقتصادي، لكن هذا الأمر ليس محسوما، ويرتبط بالواقع على المستوى الدولي، وخاصة مصير الحروب التي يمثل انتهاؤها صدمة إيجابية للاقتصاد العالمي، وبالتالي إعادة ارتفاع وتيرة النمو، ما ستستفيد منه دول الخليج بالأساس، كونها تتمتع باستقرار اقتصادي، بالإضافة إلى ثرواتها النفطية الثابتة.